زياد ابحيص
تمضي التحضيرات للانتخابات التشريعية في الضفة الغربية وغزة على قدم وساق، فيما يفترض أنه مسارٌ يبدأ في 22 أيار/ مايو 2021، تتبعه الانتخابات الرئاسية في 31 تموز/ يوليو، ثم "استكمال تشكيل" المجلس الوطني في 31 آب/ أغسطس 2021. وقد راحت قيادة المقاومة التي تورطت في هذا المسار تحاول القطع به باعتبار التراجع عنه مستحيلا، وصرفَ نظرِ كلّ من يريد التفكير إلى التفكير بما بعده، واعتبار مناقشة جدواه ملفا مغلقا تم تجاوزه، ومن ثم ينبغي التفكير بما بعده.
وفي هذا المقال نحاول استقراء النتائج المحتملة للانتخابات لعلنا نقف على ممكنات ما بعدها.
وقبل أن ندخل في السناريوهات المحتملة، فلا بد من التوقف عند احتمالين مفصليين في مسار الانتخابات: الأول هو التلاعب في الانتخابات، والثاني هو إجراؤها بنزاهة. فنزاهة الانتخابات ليست أمرا مضمونا ولا تحصيل حاصل في الحالة العربية بالإجمال، وعليه يحتمل كل مسار عددا من النتائج، نناقشها فيما يلي:
الاحتمال الأول: التلاعب بالانتخابات:
وهذا الاحتمال تدفعه رياح الانتخابات العربية في دول الردة على الثورات، فكل هذه الدول أجرت انتخابات لإضفاء المشروعية على قيادة إجهاض الإرادة الشعبية، وتحولت الانتخابات إلى خيار لشرعنة الوضع المفروض في دولتي جوار مؤثرتين في الوضع في فلسطين المحتلة، كما يعززها سياق الحرب على الحركات الإسلامية، وعلى الإخوان المسلمين تحديدا؛ وهي العدسة التي تنظر من خلالها معظم أنظمة الردة على الثورات إلى حركة حماس التي تشكل استثناء وحيدا مستعصيا لتغييب الإسلاميين عن المشهد السياسي في المشرق العربي.
تعزز العوامل المحلية كذلك هذا الاحتمال؛ فتجربة انتخابات اتحادات الجامعات والنقابات والبلديات في الضفة الغربية كلها شهدت تغييبا قسريا لمرشحي حماس، وتضييقا وملاحقة أمنية لمرشحيها أو للتجمعات الانتخابية. وفي ظل جائحة كورونا، فإن حجة ضرب التجمعات والمهرجانات جاهزة لحماية الصحة العامة. ويبقى العامل الصهيوني فوق كل العوامل، فهو معني بتقويض مشروعية المقاومة وعلى رأسها حركة حماس بأي شكل من الأشكال، وموافقته على إجراء الانتخابات ستكون مصحوبة بتدخل فعال لتغييب حماس والمقاومة عن المشهد، بل ولترجيح توجهات محددة داخل حركة فتح كذلك، لاستدامة حالة التنسيق الأمني المفتوح رغم انسداد الأفق السياسي.
ورغم أن انتخابات 2006 كانت نزيهة بشهادة المراقبين، إلا أن الوقائع أعلاه تجعل تكرارها صعبا، خصوصا وأن التجربة الأولى تعتبر بمثابة درس قاس لمحمود عباس لن يكرره، وبذلك يكون احتمال التلاعب بالانتخابات هو الأقرب إلى الحصول، ويمكن له أن يتطور إلى أحد السيناريوهات التالية:
أولا: التزوير الواضح في الضفة، من خلال التلاعب بالفرز ونتائج الصناديق، وهنا ستمسي حركة حماس أمام خيارات صعبة: إما أن تزور بالمقابل عدّ الأصوات في غزة، وتنجح بذلك قيادة السلطة بجرها إلى خسارة موقفها الأخلاقي كحركة مقاومة، وتكريس النظرة لها كغريم ليست له أي أفضلية أخلاقية يسعى إلى مقاليد السلطة تماما كما تسعى هي، علاوة على أن الاهتمام الدولي والعربي سينصب على ما حصل في غزة وسينسى تماما ما حصل في الضفة الغربية.
الاحتمال الثاني أمام حماس سيكون إصدار نتائج حقيقية في غزة، مع بقاء نتائج الضفة مختلة بفعل التلاعب، وهو ما يرجح كفة قيادة السلطة المتنفذة، ويضع حماس أمام مأزق شرعية هي في غنى عنه، ستستخدمه قيادة السلطة مباشرة لمساءلة مشروعية سلاح المقاومة وتشكيلاتها، وهو العنصر الأهم المسكوت عنه في هذا المشهد.
أما الخيار الثالث أمام حماس فهو أن ترفض النتائج، واندفاعها العالي للمقدمات والتسهيلات والمواقف المشتركة والأيدي المتشابكة أمام الكاميرات ستجعل هذا الخيار صعبا ومحدود المصداقية إن قررت حماس اللجوء إليه حينها.
ثانيا: التأثير على النتائج من خلال بيئة الحريات، أي من خلال منع التجمعات الانتخابية والتضييق على الدعاية وتهديد المرشحين وعائلاتهم واعتقالهم، لكن مع بقاء الفرز صحيحا أمام المراقبين المحليين والدوليين حرصاً على مشروعية الانتخابات. وهنا تكون الخيارات المقابلة إما الرد بالمثل مع كون غزة هي من ستوضع تحت المجهر العربي والدولي لرصد هذه الممارسات، وإما إدارة الانتخابات بنزاهة في غزة مع الشكوى من هذه الممارسات في الضفة والتصعيد الإعلامي ضدها، وهي شكوى يمكن لقيادة السلطة إهمالها أو التكيف معها بالشد والجذب، مع الوصول للنتيجة ذاتها: خسارة حماس في انتخابات "نزيهة" على اعتبار النزاهة تنحصر في فرز الصناديق وفي حريات يوم الاقتراع.
ثالثاً: ممارسة تبادل أدوار مدروس مع الاحتلال، بحيث يعتقل الاحتلال قيادات الحركة على مختلف المستويات، فتمسي إدارتها للحملة الانتخابية مستحيلة، بينما تمضي قيادة السلطة في الانتخابات باعتبارها معركة سياسية مع الاحتلال، وأن إجراءها تحدّ وطني، وهو ما يضفي مشروعية أكبر على نتائجها، التي سيكون الاحتلال قد ضمِن بيده تغييب حركة حماس عنها. وهنا سيصبح من الأصعب على حماس أن ترفض نتائج هذه الانتخابات، بعد أن كانت معركة سياسية انتصرت فيها القيادة الفلسطينية بإجراء الانتخابات. ولقيادة السلطة سوابق عديدة في صناعة أمثال هذه "المعارك الوطنية"، وتجربة استلام أموال المقاصة ليست بعيدة.. من جديد ستمسي حركة حماس في المحصلة قوة المعارضة في الضفة وغزة، ما يضع سلاحها وسلاح المقاومة عموماً على محك النقاش باسم السلطة الواحدة والسلاح الواحد والقرار الواحد.
هناك مؤشرات عديدة لبوادر لهذا السيناريو؛ تتمثل في محاولة تسجيل ناخبي حماس في المناطق المصنفة "ج" عوضا عن مكان سكنهم الأصلي، لتحويل رحلة الانتخاب إلى رحلة اعتقال، وحملة الاعتقالات الواسعة التي بدأها الاحتلال منذ أسابيع لقيادات حركة حماس في الضفة الغربية.
طبعاً من الممكن أن تحصل مزاوجة بين هذه السيناريوهات، كأن تضيق السلطة على بيئة الحريات في الضفة (سيناريو 2)، وتتبادل الأدوار مع الاحتلال كذلك ليكمل بقية المشهد (سيناريو 3)، والنتائج حينها ستكون ذاتها تقريباً للسيناريو 2، مع جعل لوم السلطة وحدها على إفشال الانتخابات أصعب، باعتبار الاحتلال نفذ بيديه التدخلات الأسوأ.
الاحتمال الثاني: نزاهة العملية الانتخابية:
ترشيحا وتنفيذا، مع الحفاظ على الخروقات في إطار ما يمكن أن يوصف بأنه "فردي" وليس حالة عامة، بشكل يثبط نسبيا احتمالات التصويت لقائمة حركة حماس في الضفة الغربية. وهذا الاحتمال رغم أن فرصه أقل من الأول، يمكن له أن يتطور إلى أحد السيناريوهات التالية:
الأول: معاقبة الناخبين لحركة حماس، وبالذات في الضفة الغربية، بعدما لحق بجمهورها من ظلم وضيم وجروح غائرة على يد الأجهزة الأمنية للسلطة، ونتيجة للّغط الكبير القائم على خيار الانتخابات، فيحجم هذا الجمهور عن الذهاب إلى الصناديق، وتخرج صناديق الضفة الغربية، وهي الأوزن في ظل قانون يعتبر الضفة وغزة دائرة إجمالية واحدة فيها 58.5 في المئة من المسجلين للانتخابات، بأغلبية لصالح قيادة فتح.
في هذه الحالة ستتجدد مشروعية قيادة السلطة الحالية في انتخابات "حرة ونزيهة"، وسيصبح طرح موضوعات السلاح الواحد والقرار الواحد هو التالي على جدول الأعمال انطلاقا من "الإرادة الشعبية" التي عبر عنها الصندوق، ما يجعل سلاح المقاومة أمام اختبار فرض نفسه بالقوة، ويعطي قيادة السلطة -المعادية لوجوده من الأساس- الفرصة لتصويره كسلاح "مارق" و"غير شرعي".
والطريقة التي بدأ بها توجه قيادة حماس نحو الانتخابات تعزز ذلك، فقد كانت أقرب إلى الفرض من المستوى القيادي، ومحاولات الإقناع المستميت الجارية شاهدة على ذلك، وربما تكون قراءة السلطة لهذا السيناريو أحد الدوافع التي يمكن أن تدفع قيادة السلطة في رام الله لترك الانتخابات تجري بنزاهة؛ طمعا في الوصول إليه باعتباره السيناريو المفضل لديها.
الثاني: فوز حركة حماس، وهي الحالة التي تمت في 2006، والإيجابية الأساسية لهذا السيناريو -الأقل احتمالا بين كل سابقيه- هو أنه يجنب المقاومة النتيجة المركزية الأسوأ للانتخابات؛ المتمثلة بطرح ملف سلاحها وكيانها المقاوم أمام البحث ووضعه في صدام مباشر مع القيادة الناشئة من "شرعية" الصندوق، لكنه يترك حماس أمام تحديات نتائج 2006 ذاتها: ماذا لو رفضت قيادة السلطة في رام الله التسليم بالنتائج، تماماً كما حصل بعد انتخابات 2006؟ أو ماذا لو استمرت لعبة تبادل الأدوار مع الاحتلال بحيث يقضي كل ممثلي حماس في التشريعي في الضفة الغربية فترتهم التشريعية في السجن، مع تعديل نظام المجلس بشكل يمنع التوكيل، حينها ستمسي كتلة فتح هي الأغلبية الفعلية مع بقاء حماس الأغلبية الرمزية، ما يجعل تبني قرارات تعزز خنق المقاومة وعزلها أمرا ممكنا في التطبيق، خصوصا مع بقاء محمود عباس شبه المضمون في سدة الرئاسة ما لم تحصل مفاجآت.
باختصار، هذا السيناريو يعني استمرار الوضع القائم كما هو، وهو ما يعني أن الانتخابات في أحسن أحوالها ستؤدي لاستدامة الوضع القائم اليوم قبلها.
تبقى نقطة جوهرية لا بد من التنبه إليها: لقد أجرى محمود عباس خلال السنوات الأربع عشرة الماضية تعديلا تدريجيا على شكل ممارسة السلطة، جعل موقع الرئاسة أقرب للموقع السيادي المحصن، الذي يقع فوق الحكومة وفوق المجلس التشريعي بل وفوق الفصائل.
وبوضوحٍ أكثر: تجرى الانتخابات اليوم وفق قرار بقانون اتخذه محمود عباس في 2007 بصفته رئيسا للسلطة، ألغى بموجبه قانونا مُقرا من المجلس التشريعي في عام 2005، وقد عدله بقرار بقانون عام 2021 غيّر فيه مكانة رئيس السلطة إلى "رئيس دولة فلسطين، رئيس اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير"، ما يجعل الفائز في الانتخابات الرئاسية حُكما يحمل صفتي رئيس السلطة (المسماة دولة) ورئيسا لمنظمة التحرير بالضرورة، فعَصم بذلك نفسه من فصل الموقعين، وضمن الهيمنة على المنظمة إذا ما انتخب رئيسا، وأعطى نفسه امتياز "رئيس الدولة" كموقع سيادي. ولذلك تحديدا عدل القانون الانتخابي، ليتطلب بالضرورة حصول المرشح الفائز بالرئاسة أكثر من 50 في المئة من الأصوات، فيكتسب بذلك مشروعية انتخابية موازية لمشروعية المجلس التشريعي بأسره.
في العموم، يمكن لهذه الانتخابات -كما سلف- أن تنتهي إلى خمسة سيناريوهات ضمن مسارين أساسيين، والخطر الكارثي التي تستبطنه أربعة من هذه السناريوهات هو فتح الباب لبحث مشروعية سلاح المقاومة، ومشروعية تشكيلاتها وأذرعها وصلاحية قرارها بالرد والمواجهة، وتوظيف "شرعية الصندوق" المبتدعة في ظل الاحتلال في مواجهة شرعية المقاومة.
لقد اكتسب هذا السلاح مشروعيته من دماء فلسطينية وعربية وإسلامية سالت وهي توصله للمقاومة، ودماء أكثر سالت دفاعا عنه، وقاعدة مدنية تحملت كارثة الحروب وويلاتها تحت سقف وقوفها خلفه. وهذه كلها مصادر مشروعية أكبر وأسمى من كل الصناديق، بل لا يصح للقيادة المؤتمنة عليها والتي شاركت في بنائها وحمايتها أن تعرضها للخطر أو التشكيك، من خلال اختبار المشروعية الأدنى في صندوق واقع تحت الاحتلال؛ لسلطة لا تتمتع بالحد الأدنى من استقلالية القرار، صندوق قابل للتلاعب مع قيادة مجربة تمارس التنسيق الأمني.
نهاية..
لو وقعت واحدة من النتائج الأربع الكارثية أعلاه، وهي الأرجح والأعلى احتمالا، فهل يمكن لخطط التكيف والتأقلم أن تعصم منها أو تُخرج قيادة المقاومة منها؟ أم ينطبق عليها مثل الحجر في البئر واستحالة إخراجه على أصحاب العقل؟ ومن هنا، هل من المقبول أو المشروع فرض هذا المسار باعتباره "مرّ وانتهى" وحصر البحث في التكيف مع مآلاته حصرا؟ أم أن هذه المآلات الفادحة تفرض بالضرورة إعادة التفكير في المسار كله؟ وما دامت الانتخابات لن تنهي الانقسام في أي من الاحتمالات أعلاه كما هو واضح، مع كونها تحمل مخاطر عالية بالذهاب إلى الأسوأ؛ فما هي جدوى السير في طريقها من الأساس؟