Menu
فلسطين - غزة °-18 °-18
تردد القناة 10873 v
بنر أعلى الأخبار

الفلسطينيّ! 

بقلم : نصار إبراهيم

الفلسطيني هنا.. في الضفة، في غزة، في الجليل، في مخيمات المنافي وحيثما يكون، هو بطبعه هكذا، يبدو غاضبا، مستاء، ناقما، هادئا، قابلا، صامتا، لكن خافية ما تقيم في أعماقه، فيتجاوز، ويمضي نحو أحلامه ويقاوم. لا يأبه لثرثرة  القلوب الخاوية. يتبع بوصلة كنجمة الصباح ولا يحيد عنها مهما بدت المرحلة قاهرة كئيبة منحوسة وملتبسة. 
قد يصمت قليلا أو يهدأ  بعض الوقت، نعم، يحدث ذلك، لكن  ليس تعبا أو يأسا، بل لأنه حينها يكون مشغولا بتفاصيل حياته العادية اليومية: يلمّ شهداءه، يزور أسراه، يضمد جراحه، يزرع قمحا  كي يأكل خبزا،  يحرث الأرض تحت زيتونة لتستقبل المطر، يشتغل يوما ليشتري لطفله كتابا،  يرفع أنقاض الدمار عن بقايا أطفال وذاكرة. لكنه بعدها يعود لسيرته يتبع بوصلته ويمضي للأمام.
حين يصمت هذا الفلسطيني أو يهدأ قليلا هكذا، حينها يقول البعض أو يفكرون: هل ترون؟ ألم نقل لكم؟  لقد نسي فلسطين من أجل "حفنة دولارات".
ثم يفاجئهم هذا الفلسطيني المتعب والمثقل والعنيد، يفاجئهم ناهضا ويملأ الكون صهيلا ويزرع الأرض بالشهداء، حينها يقول ذات البعض أو يفكرون: أنظروا هل ترون.. ألم نقل لكم؟ إنه مغامر ومجنون، ليس واقعيا ولا يملك عقلا ليعقل. 
هو الفلسطيني هكذا، له مواقيته وحدسه، يتفتح كزهر الملح والبراكين، فيشعل الأرض والسماء جرأة، ثم يعود ليلملم شهداءه، يزور أسراه، يرفع أنقاض الدمار عن بقايا بيت وذاكرة وأطفال، يزرع القمح ، يحرث الأرض، ينجب أطفالا، يدفعهم نحو فلسطين، ويتبع حدسه في البقاء دون أن تفارق عيناه نجمة الصبح. 
هو الفلسطيني هكذا، مقاومة ممتدة على مساحة مئة عام ويزيد. خذلوه. تواطئوا عليه. هجّروه مئة مرة. حاصروه. باعوه بالسرّ والعلانية. قاتلوه. لم يتركوا وسيلة ليدمروا روحه ويخضعوه، لكي يبرروا عجزهم وخواء أرواحهم، ثم يتهمونه لاحقا بالتقصير. 
هو الفلسطيني  هكذا لا يملك سوى روحه وعناده، فماذا يفعل غير ما يجيده: أن يبقى ويقاوم!؟.
يلوك الثرثارون ن ذاتهم كعادتهم، ليس لديهم غير هذا، هذا ما يجيدونه.  مشكلتهم أن عناد الفلسطيني يكشف في كل مرة هشاشتهم وبؤس خياراتهم ورهاناتهم. 
هذا وجه واحد من معادلة الفلسطيني. أما الوجه الآخر فهو عنده. فبعض أسباب مأساة الفلسطيني الممتدة تعود لأداء وسقوف قياداته وقواه السياسية.
فمقاومة الفلسطيني بمعناها الشامل لها ألف بعد وتعقيد، ولكي تكون تلك المقاومة الممتدة مجدية وفعالة، ولا تذهب التضحيات الشاسعة هدرا. لكي يكون لصعود الشهداء معنى القيامة والثبات عند خط الحق والواجب، لكي يكون لأعمار مئات آلاف الأسرى معنى وقيمة، يجب، يجب وبالضرورة أن تتجاوز القوى والقيادات الفلسطينية مأساة اللحظة من انقسام ورهانات خاطئة نحو استراتيجية تعيد فلسطين إلى سياقاتها. 
هذا يعني القطع مع أي خيار أو ولاء يكون على النقيض من وجهة بوصلة الفلسطيني العميقة: فلسطين. 
قد لا يعرف أطفال فلسطين وضع الاستراتيجيات، لكنهم بحدسهم العفوي يعرفون اتجاهها،  فيقودهم دائما إلى تلك الاستراتيجية الوطنية الجامعة. هم ربما لا يجيدون تحديد ابعاد الصراع الجيوسياسية، لكنهم بإصرارهم وعنادهم يؤشرون إلى اتجاه البوصلة: من يكون مع فلسطين تكون فلسطين معه، ومن يناقض فلسطين تقف فلسطين بكامل أثقالها وهيبتها وبأسها في مواجهته. إذن على القوى والقيادات الفلسطينية هنا وهناك أن لا تستهين أو تعبث ، بوعي أو بدونه، بحدس الفلسطيني العالي، لنقل: استندوا إليه، احترموه، حينها لن تخطئوا. تجاوزوا هندسة الكلمات والمجاملات في اللقاءات المغلقة، تجاوزوا فكر الحسابات اليومية القاصرة، عودوا للبديهيات الساطعة. فلسطين معادل موضوعي وذاتي للحرية، مكانها حيث الشعوب والقوى التي تقاوم الهيمنة والرجعية والتخلف والجهل والاحتلال والاستغلال والفساد والذل والقهر والفقر. هناك مكان فلسطين. هناك تنتصر. 
لهذا هو الفلسطيني هكذا وسيبقى، عنيد وباسلٌ، لا يُريح ولا يرتاح حتى تعود فلسطينه إليه أو أن يقضي دونها. هذه باختصار معادلة الفلسطيني البسيطة والساطعة، لا تحتاج لعباقرة في الثرثرة والتأويل والتفكيك والتركيب. إنها ذاتها معادلة شجرة الزيتون:
في كوانين تتعمّد بالمطر، وفي نيسان تشتعل بالأزهار، وفي الصيف تراقص الشمس والندى وتنضج بهدوء على مساحة ثمانية أشهر، تجمع الضوء قطرة قطرة ليفيض زيتا في لحظة حالمة. تظلّ ثمارها عصية ومرّة  قبل نضوجها الكامل، وبعد اغتسالها  بهلاهيل مطر تشارين، تعطي ما أبدعت على مدار العام دفعة واحدة.
لهذا ليس صدفة أن تمنح شجرة الزيتون أسرارها للفلسطيني، فتحدّثه وتهمس له، وكأنها تدرك أنه سيواجه أقدارا وخيارات قاسية وحاسمة، فأعطته ما يريد: عنادها، صبرها، جمالها، قدرتها على الاحتمال والعطاء. علمته أن يعتمد على ذاته العميقة، أن يعود دائما لجذوره ونبع ذاكرته الأول ويقاوم بما تيسر لكي يكون ويخلق من فسحة أفقا. بالضبط كما الزيتون واضح، باسل، لا يحب الالتباس.
لكل هذا وأبعد أقول: الفلسطيني أكثر وأعمق مما يفكر البعض أو يعتقدون.