في إسرائيل من كلّ قطر أغنية، بعضهم جاء إلى هذه البلاد لا يعرف شيئًا عنها، سوى أنّه هارب من فقر وعدم استقرار سياسيّ في بلده، كما حدث في الهجرة الكبرى في التسعينيّات من القرن الماضي...
تعمل الحروب على عدّة جبهات، عسكريّة اقتصاديّة ونفسيّة وغيرها. وإلى جانب القوّة العسكريّة المباشرة، هنالك التعبئة المعنويّة للشعب، من خلال برامج خاصّة، ومن خلال الأغاني والقصص الإنسانيّة لرفع المعنويّات وترابط الشعب وإشعار كلّ فرد فيه بوحدة المصير. وفي المقابل بثّ التشكيك بقوّة العدوّ وقدراته، وضرب الجانب المعنويّ من خلال التشكيك في ساحة الآخر، وتقسيم العدوّ إلى معسكرات وأجنحة وفصائل، وحتّى إلى تفكيك العائلات إذا أمكن ذلك.
خلال حرب الإبادة الّتي تشنّها إسرائيل على قطاع غزّة، يجري التركيز على الخلافات بين حماس وفتح، وضرب الحاضنة الشعبيّة للمقاومة من خلال ارتكاب مجازر ضدّ المدنيّين ثمّ تحميل المسؤوليّة للمقاومة.
يحصل هذا التوجّه على دفعة قويّة من ذوي الأحقاد الحزبيّة الفئويّة الضيّقة، الّذين يحيلون مسؤوليّة حرب الإبادة إلى حركة حماس، لأنّها بادرت إلى هجوم السابع من أكتوبر.
هؤلاء يتابعون كلّ صاروخ أميركي إسرائيليّ يزن نصف طنّ يحوّل عشرات الأطفال والنساء إلى أشلاء لا يمكن جمعها ليهاجموا حماس والمقاومة، بل ويسخّر بعضهم من آلام الناس ومن صمودهم، وممّن يحاول رفع معنويّات الناس، وكلّما ظهر طفل جائع أو متشرّد وجّهوا سهامهم إلى المقاومة، وبعضهم أعفى مجرمي الحرب من جرائمهم فقط كي ينتقم من حماس.
في إسرائيل يتلقّفون هذه الإشارات، ويزيدون المجازر،"كون المسؤول عنها حماس، وليس من يرتكبها".
التوجّه الآخر إلى جبهة حزب اللّه وإيران واليمن، وهو التوجّه المذهبيّ، فهناك من رفع وتيرة التحريض المذهبيّ على الشيعة ليضعهم في موقع عدائيّ أكثر من الاحتلال، وينشر أقوالًا أو أحداثًا تاريخيّة، أو حتّى من الماضي القريب في سوريا مثلًا، لا هدف له منها الآن سوى إظهار العداء المتأصّل بين الشيعة والسنّة، أمّا الاحتلال فهو الخير والبركة والسلام والمحبّة والتفاهم بين المذاهب والأمم.
التوجّه الآخر هو اتّهام عرب 48 بالانحلال، ونشر تسجيلات عن أفراحهم وتبذيرهم ولباس بعضهم المكشوف ولا مبالاتهم، وكان آخرها نشر خبر عن آلاف العرب على معبر الشيخ حسين يتزاحمون لحضور حفل وائل كفوري وجورج وسوف في عمّان. وتارة بإظهار جنديّ عربيّ في صفوف الجيش الإسرائيليّ وكأنّ عرب 48 كلّهم من هذه النوعيّة، وكأنّهم هم الّذين يقودون طائرات الإف 15 الّتي تلقي بحمم جهنّم على النازحين وغير النازحين وعلى تجمّعات "المناطق الآمنة"، في محاولة بثّ التفرقة والكراهية بينهم وبين أبناء شعبهم، ولإشعار أهالي قطاع غزّة المحاصرين بأنّهم معزولون عن العالم ولا داعمين لهم حتّى من أبناء شعبهم، وهذا غير صحيح، والدليل أنّه ما أن أعلنت عن حملة تبرّعات ومساعدات لقطاع غزّة حتّى هبّ الناس في كلّ قرية ومدينة للتبرّع بسخاء، وهم يعتبرون أنّهم مقصّرون تجاه أهل القطاع، ولكنّهم في الواقع مقموعون مثل بقيّة أبناء شعبهم، وسيف الخوف مسلّط على أعناقهم ومعروف أنّ بعض سجن بسبب منشور أو لايك.
بغضّ النظر عن الجهة الّتي تنظّم حملة التبرّعات في هذه الأيّام، أو كيف سيتمّ توصيل هذه المساعدات! ومن الّذي سيتسلّمها وكيف سيوزّعها؟! فهذه أمور أيضًا يجب معرفتها ومتابعتها، إلّا أنّ هذا يعبّر عن الألم والكبت الّذي يعيشه المجتمع العربيّ في ال 48 مثله مثل بقيّة إخوانه في الضفّة الغربيّة وقطاع غزّة ومخيّمات الشتات، ولو فتح المجال لإدخال يد العون إلى قطاع غزّة بحرّيّة لما تردّد واحد عن مدّ يد العون لإخوانه بسخاء كبير، ولكن هنالك من يسعى بصورة ممنهجة لإظهار لا مبالاة عرب 48 لما يجري من حولهم، وإظهارهم في عالم آخر على غير حقيقتهم، فهم يعيشون في حالة وشعور بالمأتم الجماعيّ كما هو حال شعبهم كلّه، أمام حرب الإبادة وعجز الشعوب العربيّة عن قول كلمتها، وتواطؤ العالم "الحرّ" ومشاركته، وموقف أنظمة الخزي العربيّ ممّا يجري. وعرب 48 يدركون ما تعنيه العنصريّة وما يفعله العنصريّون وما يحلمون فيه تجاههم.
لا شكّ أنّ هناك من كلّ شعب فئات متأثّرة أكثر من غيرها بما يجري من حولها، وهناك فئات يهمّها أن تستمرّ في حياتها العاديّة لقناعتها بعجزها عن التأثير، ولكنّ هذا لا يعني أنّها لا تهتمّ لآلام غيرها، ولا يعني أنّها باتت منفصلة عن شعبها وأمّتها.
هنالك صرخات أخرى مثل: أين هم العرب؟ لماذا لا يتحرّك العرب؟ يبدو أنّ مصر ليست عربيّة! وترى الكثير من الشتائم والتنصّل من الأمّة، وحتّى التشكيك بوجود أمّة عربيّة! إذ كيف لأمّة أن تنظر إلى ما يجري لشعب عربيّ دون أن تحرّك ساكنًا سوى بيانات القلق والاستنكار! لماذا لا نرى مظاهرات داعمة لفلسطين في القاهرة كما نراها في مدن أوروبّيّة؟ لا شكّ أنّ الشعوب العربيّة مقموعة هي الأخرى وهي محرومة من التعبير عن حقيقة مشاعرها تجاه فلسطين وما يجري فيها، والأنظمة تعمل على احتواء الغضب وتخشاه، وتعمل مباشرة من خلال أبواقها أو غير مباشرة على إشغال الشعوب وإيهامها بأنّها تقوم بالواجب والضروريّ لنصرة القضيّة الفلسطينيّة من خلال الشعارات الفضفاضة، أو من خلال المساعدات الاستعراضيّة بالطائرات، وإيهام شعوبها بالمواقف العقلانيّة والشجاعة الخ، إلّا أنّ الشعب تدرك الحقائق ولكنّها مقموعة، هذه هي الحقيقة.
قياسًا على فلسطين. ممكن أن نتساءل أين كان العرب عندما حوصر العراق ومات أكثر من مليون عراقيّ نتيجة لحصار دام سنوات؟!
أين العرب ممّا يجري في السودان حاليًّا، وما يجري في وجرى في سوريا؟
في هذه الظروف ترتفع أصوات تقول بعدم وجود أمّة عربيّة، وأنّ المصريّين ليسوا عربًا بل هم أقباط، وكذلك اللبنانيّون فهم فينقيون، ولا حتّى الفلسطينيين، فهم بلشت.
هذه حقائق تاريخيّة، أوّلًا لا توجد أمم نقيّة مئة بالمئة، في عصرنا، هنالك عرب بائدة، وعرب عاربة وعرب مستعربة وعرب محدثة، وأكثر عرب اليوم هم عرب محدثة، أي صاروا عربًا في الألفي عام الأخيرة، وهذه حقائق تاريخيّة، وبعضهم تعرب في القرون الأخيرة، فالمنطقة في تحوّلات ديناميّة دائمة، ولكنّ اللغة والتاريخ الثقافيّ هو ما يجمع الشعوب لتشكّل أمّة، وخصوصًا أنّها متواصلة جغرافيًّا وتوحّدها اللغة العربيّة، والثقافة العربيّة الإسلاميّة.
الأمّة الأميركيّة، من كل قطر أغنية، كلّ من يحصل على جنسيّة أميركيّة يصبح أميركيًا من أبناء أميركا، ولا أحد يقول أين الأمّة الأميركية! فابن الناصرة وابن هونغ كونغ وابن روسيا والهنديّ الأحمر في أميركا كلّهم صاروا أميركيين.
في إسرائيل من كلّ قطر أغنية، بعضهم جاء إلى هذه البلاد لا يعرف شيئًا عنها، سوى أنّه هارب من فقر وعدم استقرار سياسيّ في بلده، كما حدث في الهجرة الكبرى في التسعينيّات من القرن الماضي، حيث جاء إلى البلاد حوالي مليون هارب من دول الاتّحاد السوفييتيّ المتفكّك، لا يعرفون عن اليهوديّة شيئًا، صاروا يهودًا بعد تهويدهم، وبعضهم رفض التهوّد، ولكن خدم أبناؤه في الجيش، وصاروا يهودًا يخدمون في قطاع غزّة وغيره، وهذه صارت قوميّة تخوض حرب إبادة ضدّ شعب يتناسل في هذه البلاد، ويعيش فيها منذ عشرات القرون.
أخيرًا، لو أنّ سكّان تلّ أبيب وحيفا ورحوفوت ومستوطنات الضفّة الغربيّة، وغيرها يعانون خمسة بالألف من معاناة أهل قطاع غزّة، أو أهل الضفّة الغربيّة والقدس، لبصقوا على هذه البلاد وعلى الساعة الّتي وجدوا أنفسهم فيها وتركوها غير آسفين عليها وإلى الأبد.