زياد حافظ*
الجزء الثالث: ملف العلاقة
مع الجمهورية الإسلامية في إيران
حجر الزاوية للسياسة الخارجية الأميركية لإدارة بايدن في منطقة الشرق الأوسط هو الملف النووي الإيراني. تصريحات الرئيس بايدن خلال الحملة الانتخابية تشير إلى رغبة في العودة إلى الاتفاق. لكن الملف النووي الإيراني يزداد تعقيداً يوماً بعد يوم. فتصريحات الرئيس بايدن حول العودة إلى الاتفاقية مع إيران لا تعني شيئاً إنْ لم يواكبها رفع العقوبات على الأقلّ تلك التي كانت مفروضة في إدارة أوباما. لكن السؤال هل بمقدور الرئيس المنتخب رفع العقوبات؟ سؤال ليس من السهل الإجابة عليه لأنّ ضغط الكيان الصهيوني لن يتوقّف ولأنّ الكونغرس الأميركي مزاجه معاد لإيران. كما أنّ المواقف المؤيّدة للكيان الصهيوني عند الرئيس الأميركي وفريق سياسته الخارجية الصهيوني تجعل تصوّر أيّ تساهل مع الجمهورية الإسلامية لا يتجاوز التراجع اللفظي دون أيّ مردود على صعيد العقوبات أمر بعيد المنال كما صرّحت مديرة الاستخبارات الوطنية افريل هاينز.
في هذا السياق هناك نوعان من العقوبات: العقوبات التي كانت مفروضة قبل الاتفاق والعقوبات التي فرضتها إدارة ترامب. نلفت النظر إلى أنّ العقوبات التي كانت مفروضة قبل الاتفاق لم ترفعها إدارة أوباما بعد التوقيع على الاتفاق. كلّ ما فعلته هو تحرير بعض الأموال المجمّدة. هذه الحالة لم تكن لتزعج كثيراً الجمهورية الإسلامية لأنّ الاتفاق فتح باب التعامل مع الدول التي قاطعتها في المراحل السابقة. أما عقوبات ترامب فكانت عقوبات أيضاً بحق كلّ من يتعامل مع الجمهورية الإسلامية. هنا أيضاً سيكون الصراع بين الرغبات والقدرات والنتيجة تحسمها موازين القوّة التي لم تعد لصالح الولايات المتحدة. ما يمكن توقّعه هو تخفيف لهجة المخاطبة عند الأميركيين ولكن دون أن يرافق ذلك خطوات ملموسة. أقصى ما يمكن أن نتوقّعه هو أن تغضّ النظر الإدارة الأميركية عن الأطراف التي لا تستطيع الالتزام بقرارات الحظر الأميركي وإدراج لائحة من الاستثناءات الواسعة. ما يمكن أن يؤدّي إلى رفع العقوبات هو الاعتراف (داخل الإدارة الجديدة) بالهزيمة في الصراع مع الجمهورية الإسلامية في إيران ولكن هذا أمر مستبعد في المرحلة الراهنة وربما المقبلة. قوّة «اليسار» في مكوّنات الإدارة الأميركية لا تنجر إلى الملفّات الخارجية إلاّ في قرارات المواجهة العسكرية.
لكن لا بدّ من التذكير ببعض النقاط في موضوع الملف النووي. فخلال ولايتي باراك أوباما كان الهاجس هو التفاوض مع الجمهورية حول عدد من القضايا السياسية منها الملف النووي. لكن القيادة الإيرانية رفضت ربط الملفات السياسية بالملف النووي متمسكّة بحقها بالتخصيب كسائر الدول في العالم. اعتقدت الإدارة الأميركية آنذاك أنّ الوصول إلى تفاهم مع الجمهورية الإسلامية قد يقوّى يد «الإصلاحيين» في إيران المنفتحين على التفاعل مع الغرب. وفقاً لدراسات عديدة لم يكن هاجس الولايات المتحدة امتلاك إيران للقنبلة النووية بل كانت فقط «حجّة» لفتح قنوات الحوار مع الجمهورية الإسلامية حول الملفّات التي تهمّ الولايات المتحدة وفي مقدّمتها أمن الكيان الصهيوني الذي يتعارض كلّياً مع العقيدة السياسية في الجمهورية الإسلامية. كان «إنجاز» الاتفاق النووي إقراراً بفشل جهود الولايات المتحدة والغرب والكيان الصهيوني بمنع إيران من امتلاك المعرفة النووية وبمنعها من التخصيب بالنسبة المرتفعة التي يحق لها وفقاً للمعاهدات الدولية. كما كان إقراراً بفشل الولايات المتحدة على فرض أجندتها على الجمهورية الإسلامية فاكتفت بالتفاوض بالملف النووي. كما أنّ الاتفاق فكّ العزلة عن إيران وفتح باب التفاعل الدولي معها مع رفع العقوبات الأممية المفروضة عليها. لكن لم يؤدّ الاتفاق إلى رفع العقوبات الأميركية على إيران والتي استمرّت حتى نهاية ولاية أوباما.
ترامب أعاد العزلة إلى إيران إضافة إلى عقوبات جديدة بغية خنق الاقتصاد الإيراني. لكن ردّ الجمهورية الإسلامية كان تمسّكها بالاتفاق الشامل حول الملفّ النووي ولكن مع استعادة حقّها بالتخصيب بالنسب المرتفعة. فما كانت تخشاه إدارة أوباما قد تحقّق عبر تقصير المدة الزمنية الافتراضية لتملك قنبلة نووية إذا ما أرادت إيران ذلك. ويصبح السؤال هنا: هل ستقبل إدارة بايدن العودة إلى ما كان عليه الوضع قبل ترامب؟ التصريحات الأولية لعدد من المسؤولين بدءاً من الرئيس إلى وزير خارجيته توحي بـ نعم. مستشار الأمن القومي جال سوليفان ذهب أبعد من ذلك وتكلّم عن رفع العقوبات إذا ما التزمت إيران بتعهّداتها. إذا كان الأمر كذلك فلا مشكلة ولكن الأمور في رأينا ليست بتلك البساطة. فما زال هاجس الإدارة مقاربة الدور الإيراني في المنطقة لضمان أمن الكيان الصهيوني وليس لغرض آخر. حتى الساعة ليس هناك من دليل حول حلّ تلك الإشكالية التي قد تكون استعصاء.
الخيارات المتاحة أمام الإدارة الجديدة محدودة فلا مواجهة عسكرية بل ربما توترات أمنية متدرّجة ومتصاعدة دون الوصول إلى مواجهة مفتوحة كبيرة ولا تسوية سياسية إلاّ بالرجوع إلى ما قبل ترامب. ومهما نظرنا إلى الأمور فإنّ الجمهورية الإسلامية هزمت الولايات المتحدة بشكل استراتيجي لكنها لم تنعم بالنصر وستستمر الإدارة الجديدة بمنعها من النصر. ما يساهم في التنعّم بالنصر أمران: قدرة الولايات المتحدة على تجاوز تفاقم الاستحقاقات في الداخل الأميركي وموقف الدول الأخرى كالاتحاد الأوروبي وسائر الدول في تجاوزهم للعقوبات الترمبية. في الشقّ الأول نعتقد أنّ الانقسامات الحادة الداخلية وحتى داخل الحزب الحاكم ستحول من إمكانية الاستمرار في سياسات عدوانية. أما دول الاتحاد الأوروبي ستكون أكثر حرصاً على الاستفادة من عقود تجارية مع الجمهورية الإسلامية في إيران في ظلّ الانكماش الاقتصادي أو حتى الكساد الذي يهدّد الولايات المتحدة. فالمصالح الأوروبية في الولايات المتحدة ستتأثر من جرّاء الانكماش/ الكساد ما يفرض على الاتحاد الاوروبي فتح آفاق جديدة خارج الولايات المتحدة.
أما في ما يتعلّق بالملفّات الأخرى كالملف الباليستي الإيراني والتمدّد بالنفوذ فليس بمقدور الإدارة الجديدة تقديم أيّ شيء حتى الساعة. في المقابل ما يمكن أن تقدّمه الجمهورية الإسلامية هو «تنازل» عن حقّها في التخصيب كما تنصّ عليه الاتفاقات الدولية والشروط المرفقة بها، ولكن لن يتمّ ذلك إلاّ إذا ما تمّ رفع العقوبات كلّياً. لذلك نرى أنّ «التسوية» لن تتجاوز مرحلة ربط نزاع مع الجمهورية الإسلامية في إيران. يمكن من ضمن شروط ربط النزاع غضّ النظر عن تنفيذ العقوبات أو السماح بـ «استثناءات» تعطي بعض الحيوية للحالة الجديدة. لكن السؤال الأكثر أهمية هو حول جدوى تلك العقوبات المفروضة على الجمهورية الإسلامية. في رأينا برهنت التجربة أنّ العقوبات قد تكون مؤلمة ولكن دون أيّ فعّالية في تحقيق أهدافها. فالعقوبات هي أنواع من جرائم الحرب وفي مستقبل قد لا يكون بعيداً ستتمّ مساءلة الولايات المتحدة على الجرائم.
*باحث وكاتب اقتصادي سياسي والأمين العام السابق للمؤتمر القومي العربي