بقلم احمد المدلل
كأنه قادم من عصر غير عصرنا ، تقتبس الطهارة من بين عينيه ، يوزع الابتسامات العفوية الجميلة التى تشيع الطمأنينة والثقة والمحبة بين الأقران والتى قرأنا عنها فى قصص الصحابة وتمثلناها فى سِيَر السلف الصالح ... يتردد اسمه فى لحظات الحضور والغياب منذ قدوم الدكتور فتحى الشقاقى رحمه الله الى أرض فلسطين وكأنهما تواعدا على قدر .
التحق الشهيد محمود الخواجا رحمه الله بصفوف حركة الجهاد الإسلامى منذ قدوم د فتحى رحمه الله قطاع غزة من مصر وبقى ملازما للدكتور فتحى فى حلّه وترحاله ، أذكر حينها كانت لديه سيارة من نوع بيجو ٥٠٤ بيضاء اللون أكثر ما تراها واقفة على باب مسجد عنان(حسن البنا) محط اللقاءات الحركية والشبابية من خلال ندوات ومخيمات صيفية ومن اراد من نخب قطاع غزة وقياداته ان يتعرف اكثر على أفكار الحركة يعلم أن الملتقى هناك مع قياداتها ومفكريها ومشايخها . أذكر فى ذات المكان بدأت معرفتى بالشهيد محمود الخواجا أبو عرفات ، ونقطة التقاء شارع النصر الرئيسى مع الشارع الرملى المؤدى الى مسجد عنان غرباً، كانت طريقا رملية ومن جانبيها ( احراش) ، تصل بنا السيارة الى بداية الطريق ثم نمشى سيرا على الأقدام فى الطريق الترابى الى مسجد عنان ، وفى أحد الأيام وأنا أحث الخُطى لألتحق بصلاة العصر فى مسجد عنان وبعدها حضور لقاء الدكتور والمشايخ والشباب من كل القطاع فوجئت بسيارة بيجو ٥٠٤ بيضاء ( عرفت فيما بعد أنها لم تكن تخلو من السلاح ) تقف الى جوارى والسائق الذى ترى فى وجهه الجدية وعناء العمل اليومى، بكلماته البسيطة وبابتسامة خفيفة يطلب منى الركوب معه ، كنا خائفين من عيون المخابرات والتى ليست بمنأى عما يحدث فى مسجد عنان وأنا أتحسس خطاى قادم من رفح من أجل ساعة حضور مهمة بالنسبة لى ، ثم مدّ رأسه ليطمئننى قائلاً : أنت لا تعرفنى ، ولكنى أعلم انك ذاهب إلى عنان (المسجد) . صمتُّ قليلاً ، ثم قال : لا تخف ، اركب اركب .. وبدأت علاقتنا منذ تلك اللحظة ... كلما ذهبت الى غزة ألتقيه وعندما يأتى الى رفح ألتقيه فى بيت د فتحى رحمه الله الذى كان يعتبره كاتم اسراره ، يجلس معنا والدكتور فتحى يتحدث عن الاسلام وفلسطين والجهاد وعن قضايا الامة الاسلامية المعاصرة ، يتلقى الفكرة بصمت وعمق ، وبالرغم من انشغاله الدؤوب فى العمل، إلا أنه لم يتغيب عن تجمعات مسجد عنان والرحلات الثقافية والندوات والجلسات وموعدها بعد العصر عندما ينتهى من وظيفته كعامل نظافة فى وكالة الغوث ، يتفرغ للعمل الحركى وأسعد لحظاته وقمة نشوته عندما كان يكلفه الدكتور فتحى بعمل تنظيمى ، لم يقل يوما لا او يضجر ، كان صاحب همة عالية إلى أبعد الحدود لا يستعصى عليه شئ ... كل لحظات حياته حركة وعمل لا يدخل فى نقاشات فكرية مع شعورك وانت تنظر إليه أنه مؤمن بما يطرحه د فتحى من أفكار حتى النخاع ولكنه ابن المخيم الذى كان يعشق الثورة والمواجهات مع الجنود على مشارف مخيم الشاطئ وحين يقتحمونه ، كما عشق السلاح كما كل فدائيى المخيم ، ووجد نفسه يذوب فى فكر الحركة ، وكم كان حريصا علي نشر فكر الحركة وتقوية حضورها فى كل الميادين وهو الذين قاتل من اجل ان تشارك فى الانتخابات الطلابية الاولى فى الجامعة الأسلامية وقد التحق للدراسة فيها وترأس حملة قائمة انتخابات طلاب الجهاد الإسلامى فيها باسم المستقلين وهى اول تجربة انتخابات للحركة على مستوى الجامعات الفلسطينية وحصدت فيها الحركة رقماً غير متوقع حينها ما يقارب ٤٠٠ صوتاً كان يقاتل الدنيا كلها من أجل أن يعلو صوتها ويسمعها الجميع ، ولم تعرف حركة الجهاد الاسلامى طريقها إلى مخيم الشاطئ إلا من خلاله ، المخيم المحسوم باصطفافاته ما بين المجمع الإسلامى وحركة فتح والفصائل اليسارية حينها وكان يسمى مخيم الفدائيين قبل ان ينشط فيه فكر الإخوان المسلمين " المجمع الاسلامى" حيث كان منزل الشيخ أحمد ياسين ومعظم قيادات المجمع حينها من هناك ، أحمد بحر ، خليل اللوقا، اسماعيل هنية ، وغيرهم ، وبدأت حركة الجهاد فى مخيم الشاطى من الشهيد محمود الخواجا الذى غيّر الموازين وهو ابن عائلة مشهورة فى المخيم والمحبوب لدى الجيران وكل من يعرفه ، يتصف بالنخوة والشهامة ويقترب من الجميع بخفة ظله وابتسامته المعهودة ، ولديه أصحاب كثيرون التفوا حوله حتى ازداد عدد أتباع الحركة فى أيام قليلة مما دفعه لإحضار الدكتور فتحى وقيادات الحركة حينها لعقد ندوات فى بيته وأيضا اجبار ادارة مسجد جمال عبد الناصر الكبير للقبول بإحضار مشايخ حركة الجهاد الاسلامى القلائل حينها لإعطاء الدروس الدينية وبدأت الفكرة تنتشر بقوة فى مخيم الشاطى ونواتها منزل الشهيد محمود الخواجا .
إنها مرحلة النشأة والتكوين التى احتاجت الى نماذج فريدة
تحمل همّ الجبال وتنطلق فى كل الميادين بلا حسابات ، ولا كلل ولا ملل ، ولا تردد، ولا تعجزها امكانيات قليلة ، لم تكن تحتاج سوى اقداماً غائرةً معفرّةً يحركها الاخلاص والانتماء وشق الطريق رغم القلة والضعف والمسكنة ، ومزيد من الايمان والاقتناع والتشبث بفكرة " الجهاد الاسلامى" التى ربطت بين الاسلام والوطنية وفلسطين بزخم ثورى جهادى حرّك الشارع الفلسطينى بعفوية عقائدية وطنية ووعى القائمين على الفكرة ... ويسألونك ، لماذا صنعت معركة بيت ليد ذلك الحدث المرحلى المميز فى تاريخ القضية الفلسطينية ، والتى ضربت المنظومة الأمنية والعسكرية الصهيونية فى مقتل وأقضت مضاجع القادة الصهاينة سياسيين وعسكريين ، كما أربكت حسابات كل السياسيين فى المنطقة وقد اعتقدوا انهم ذاهبون للرضا والتسليم بالواقع الاسرائيلى وضياع الحلم الفلسطينى بالحرية والعودة ، عملية بيت ليد نموذج نادر فى المواجهة مع الجيش الذى لا يُقهر، لأن الذى تبلورت لديه معالمها وقام على دراستها ومعرفة تفاصيلها ومن خطط لها بخبرة عالية فى اللحظة المناسبة والمكان المناسب والهدف المدروس جيدا وتوزيع الدور باتقان ، وكم ونوعية المتفجرات وسيرورة العملية وجهّز الاستشهاديين ومن قام بتوصيلهم الى المكان وفى الزمان المحددين والمتابع من دمشق أولا بأول لإحداثيات العملية بعد موافقته على التنفيذ ، وهو المفكر والسياسى الذى يتابع عمل الجهاز العسكرى وتجهيزاته أولاً بأول ، لقد كان يُدرك د فتحى رحمه الله أن الامور بالنسبة اليه ما بعد عملية بيت ليد لن تكون كما قبلها ، أراد د فتحى ان تكون عملية بيت ليد صدمة للصهاينة يصعب الاستفاقة منها ، لذا من الطبيعى ان يختار د فتحى هذه النماذج القرآنية الفذة التى صنعها على يديه( محمود الخواجا ، محمود الزطمة ، صلاح شاكر، أنور سكر، ايمن الرزاينة، عمار الاعرج ومن هم داخل الاسر شاركوا فيها ) والتى اشتعلت ايماناً بربها وشعارها الطاعة والالتزام ، تشربوا فكرة الجهاد حتى النخاع ، إنهم نفس النسخة الأصلية من حوارّيي النبع الصافى الذين تربوا على فكر الجهاد الاسلامى كما عرفتهم جميعا، ولكن اول من عرفت فيهم الشهيد محمود الخواجا ابو عرفات رحمه الله ...