احمد المدلل
ما الذى تبقى لنا من فلسطين والقضية ، على ماذا نراهن وعلى من ، ما الذى نملكه لمواجهة التحديات التى تعصف بالقضية ، ماذا سنفعل ، إلى أين نحن ذاهبون ، ما هى الخطوات القادمة ، غزة ومصيرها المجهول ، الضفة وضياعها المشهود ، من بقى معنا ومن علينا، ما الذى ينتظر الفلسطينى داخل فلسطين وخارجها ، أسئلة تتردد على ألسنة الجميع ، وللأسف الشديد ، جدلٌ كبيرٌ ومناكفاتٌ سياسيةٌ وكلامٌ كثيرٌ يُقال والرحى تدور دون نتاج ، لا جواب يشفى الغليل ولا آفاق تخط النهاية ... من أين نبدأ ، من غزة الجريحة و المعذبة ، أم من الضفة المسلوبة والمنتهكة ، ام من القدس المهوّدة والمسرألة، أم من أرض فلسطين المحتلة عام ال٤٨ التى سقطت من حسابات المطبعين من العرب والمفاوضين من الفلسطينيين ، وأهلها يتعرضون لعنصرية صهيونية مقيتة واندثارٍ للهوية ، أم من مخيمات الشتات حيث الآلام والعذابات والتهجير المتكرر الى الموت فى بلاد الغربة او الغرق فى عرض البحار ، مآسى بعضها فوق بعض ، بلا رحمة ولا عدالة ولا اغاثة ولا نصرة ، غاب الضمير العالمى والكل أعمى عينيه وبقى الفلسطينى وحده يصارع من اجل البقاء والحفاظ على الهوية وقد عاش الفلسطينى على أمل ان تنتهى المأساة التاريخية التى ألمّت به ويعود آمنا مطمئنا الى دياره ، ثم تراجع الأمل لعله يعيش آمنا مطمئنا فى قطعة أرض بقيت له على أرض فلسطين ، ثم تراجع الأمل أكثر وأكثر لعله يرتاح من وعثاء المعاناة فى ديار الغربة التى أُجبر بالرحيل اليها أو فى مخيمات اللجوء ، لتظلله المأساة فى حِلّه وترحاله ، وأخيراً لم يبقَ للأمل بصيصاً ... من يعيد قراءة التاريخ الفلسطينى منذ نكبة ١٩٤٨ الى هذه اللحظة، يجد ان الشعب الفلسطينى لم تمر عليه مرحلة أسوأ مما يعيش الآن ، واسألوا الكهول من الفلسطينيين الذين أمدَّ الله لهم فى أعمارهم حتى يبقوا أحياء إلى هذه اللحظة ويرونها بأم أعينهم التى ابيضت وانكمشت من الحسرة والحزن ، ليتأكد لكل باحث عن الحقيقة أن كل أحداث العالم التى دارت منذ بدايات القرن العشرين (الماضى) كانت من أجل الوصول الى هذه اللحظة الاسرائيلية الحاضرة ، ومن أجل هدف واحد ... زرع كيان غريب وشاذ فى قلب العالم العربى والاسلامى أو ما اصبح معروفاً (دولة اسرائيل اليهودية) وتحصينها لتكون امرا واقعا لا بد منه ، وكل تغيرات موازين القوى فى عالمنا كانت تصب من أجل تحقيق ذلك الهدف ومن يعيد قراءة أحداث القرن الماضى الرئيسية وبدايات القرن الحالى يزداد يقينه :
- محاولات إضعاف الخلافة الاسلامية ما بين عامى(١٩٠٨ - ١٩٢٤) وتدميرها نهائياً والتى قد مثلت حصناً يحفظ شوكة المسلمين وقد رفض آخر سلاطينها عبد الحميد الثانى التواجد اليهودى على ارض فلسطين وحيكت المؤامرات لإضعافها ثم اسقاطها .
- اتفاقية سايكس بيكو عام١٩١٦م بين بريطانيا وفرنسا وتجزئة العالم العربى الى دويلات مختلفة ومتصارعة ومتناحرة طائفياً وإثنياً وقبائلياً ، مما أدى إلى تدمير مقوماتها واهدار ثرواتها ، وربط هذه الدول أو الدويلات حتى مكوناتها بالدول العظمى لتحقيق أطماعها ، ولا يزال هذا المسلسل قائماً إلى يومنا هذا .
- إعلان عصبة الأمم عام ١٩٢١م قرار بفرض الانتداب البريطانى على ارض فلسطين من اجل تنفيذ وعد بلفور الذى أصدره وزير الخارجية البريطانى عام ١٩١٧م بإقامة كيان قومى لليهود على ارض فلسطين وعُرف فيما بعد باسم( وعد بلفور) ومن ثَمّ سمحت بريطانيا بالهجرة اليهودية الى فلسطين .
-الحربان الكونيتان الاولى ١٩١٤م والثانية١٩٤٥م واللتان نتج عنهما انتصار بريطانيا وفرنسا والحلفاء الأوروبيين الذين عملوا جاهدين عبر عقود طويلة من الزمن للتخلص من المشكلة اليهودية التى أرّقتهم تاريخياً ودعم إقامة دولة الكيان الصهيونى عام ١٩٤٨م.
- تفكك دول الاتحاد السوفيتى فى ثمانينيات القرن الماضى وزوال قوته والذى مثّل أحد قطبى القوى فى العالم بعد الحرب العالمية الثانية وبقيت أمريكا وحدها متفردة كقوة عظمى فائقة ، الدولة المسكونة بالاجرام والغطرسة والهيمنة والتى تماهت فى نشأتها وأداءها مع دولة الاحتلال .
-الحروب المصطنعة فى عالمنا العربى والاسلامى وتدمير مقدرات الامة واهدار ثرواتها مثل الحرب الايرانية - العراقية التى استمرت من عام ١٩٨٠م إلى عام ١٩٨٨م والتى أكلت الأخضر واليابس فى الدولتين وأهدرت ثروات ومقدرات الدولتين ، ومن ثم تدمير دولة العراق بشعبها وجيشها وثرواتها وتاريخها واشغال الشعوب العربية والاسلامية بأزماتها الاجتماعية والمعيشية والاقتصادية والسياسية المتكررة التى لم تنتهِ بل تفاقمت ما بعد ثورات الربيع العربى والذى تحول الى خريفٍ أسود ...
- التقدم التكنولوجى الذى احتكرته أمريكا والدول الاوروبية فيما ارسلت الفُتات منه الى عالمنا العربى والاسلامى ليس للاستفادة والنهوض وإنما لتدمير الانسان والمجتمع وتمييع انشغالاته وتفريغه من ثقافته وأخلاقه السوية والسليمة النابعة من عقيدته وعرفه السائد والتى حافظت على تميز شخصيته العربية والاسلامية الأصيلة عبر التاريخ والتى تربى عليها ، حتى أعراف العرب فى الجاهلية والتى صاغها حلف الفضول قد تلاشت فى ظل الضياع الذى يعيشه العربى والانحراف نحو إشباع رغباته الخاصة.
- إجهاض أى نهضة قد تحدث فى العالم العربى والاسلامى بتسليط أنظمة الحكم (التى عملت لصالح الشيوعية السوفييتية تارة والامبريالية الرأسمالية تارة أخرى) لملاحقة واعتقال وقتل العلماء والدعاة والمفكرين واحرار الامة لتبقى الشعوب المستضعفة خاضعة وذليلةتحت سياط حكامها الطغاة يفرضون عليها ما يشاؤون حتى ينسوا قضية فلسطين .
- استحداث مؤسسات مرتبطة بالغرب فكرا وعقيدة وقانونا وثقافة لغرس ثقافة وتعاليم وعادات مختلفة تماما عمّا تربّت عليها الشعوب العربية والاسلامية .
- اتفاقيات السلام مع دولة الكيان بدءاً باتفاقية كامب ديفيد الأولى عام ١٩٧٨م بين مصر واسرائيل واتفاقية أوسلو ووادى عربة واتفاقيات التطبيع المتوالية وكلها أعطت مزيدا من الشرعية للاحتلال الصهيونى وتكريساً لوجوده وكان أخطرها اتفاق اوسلو الذى وقّعت عليه م ت ف واعترفت للكيان الصهيونى على 78% من ارض فلسطين التاريخية أوقفت انتفاضة الحجارة التى أبدع فيها الشعب الفلسطينى بوحدته ونضاله والتى أفرزت أيضاً تنسيقاً أمنيا مباشرا بين أجهزة السلطة الاسرائيلية والفلسطينية مما أجهض انتفاضة الأقصى التى أقضت مضاجع الكيان الصهيونى وحاول جاهدا إنهاء حالة المقاومة .
- إنهاء دور منظمة التحرير الفلسطينية التى مثلت منذ تأسيسها عنواناً للثورة والهوية الفلسطينية وإستخدامها فى اوسلو للاعتراف بالعدو الصهيونى على أرض فلسطين .
وأمام هذا كله تعامل الغرب مع دولة الكيان الصهيونى ربيبته التى وفّر لها كل أدوات الدعم المادى والمعنوى واللوجستى حتى أصبحت دولة الاحتلال أقوى دول المنطقة فى كافة المجالات العسكرية والتكنولوجية والعلمية والإعلامية والمخابراتية بل اصبح لها يداً للتأثير فى الساحة السياسية العالمية ، وبدلاً من ان تكون اداة بيد الغرب لإخضاع المنطقة العربية أصبح الغرب وأمريكا قائمين على خدمتها وتقويتها واصبحت هى العنوان الرئيسى للرضا الأمريكى الغربى على الدول العربية التى تُطبع وتنسج معها العلاقات ... والوقائع كلها تشير أن دولة الإحتلال ماضية بلا هوادة لتحقيق أهدافها الذاتية فى المنطقة وتكريس الرواية الاسرائيلية أمام تراجع عربى واسلامى واضح اتجاه الرواية العربية الفلسطينية التاريخية ولم يعد تحرير فلسطين همّا ومطلبا عربيا نظمويا وقس على ذلك فريق من الفلسطينيين أهمتهم أنفسهم وامتيازات السلطة وإغراءاتها وغرق القائمون على الوضع الفلسطينى فى فساد السلطة وضاعت كل محاولات اعادة ترميم المشروع الوطنى الفلسطينى ادراج الرياح وفى الوقت الذى يفرض فيه الكيان الصهيونى وقائعه على الأرض أمام مرأى ومسمع العالم كله لا زلنا كفلسطينيين نرواح فى نفس المكان ، وبالرغم من مراهنتنا على شعبنا ليبقى قوياً معجزاً صاحب إرادة إلا انه وللاسف الشديد فُرض على ابناء شعبنا أولويات أخرى صنعها الواقع الفلسطيني السياسى الردئ بممارسة لا اخلاقيات السياسة من قِبَل المتنفذين حتى يكون همُّه الحقيقى فى كيفية توفير لقمة عيشه والتفكير فى تأمين مستقبل ابناءه ولا يُشغل نفسه كثيراً فى تحرير القدس وفلسطين ، وغَرِقنا جميعا فى كيفية إعادة الوحدة الفلسطينية من جديد مع ان الأمر ليس معقداً كما يتصور البعض اذا اقتنعنا جميعا أننا لا زلنا نعيش تحت الاحتلال وان المرحلة هى مرحلة تحرر وطنى وهذا يحتاج إلى نزع وهم السلطة من عقولنا وقلوبنا وان نحرر انفسنا من موبقاتها . المعطيات جميعها تؤكد ان قضيتنا فى اسوأ مراحلها وأن شعبنا يمضغ الحصرم بفعل القائمين على أمره بل إنه يموت حسرة ألف ألف مرة على أجيال تضيع وقضية تتلاشى وتضحيات لم يعد لها أثر ، وبعكس المنطق تماما يُعاقَب الشهيد والأسير والجريح والمقاوم وتُعاقَب غزة وأهلها ، فيما الاحتلال يُعاقِب كلَّ من هو فلسطينى ، ويضيع الحلم الفلسطينى فى دهاليز السياسة المظلمة ... أما ساحة الانتظار تبقى فى عالم الغيب الذى لا يعلمه إلا الله وفعلٌ لا تحركه إلا مشيئة الله ليعود الصراع إلى أصوله الحضارية والعقائدية والتاريخية ، وتبقى المهمة الأساسية للمخلصين من أبناء الشعب الفلسطينى هى إحياء القضية كلما حاول الآخرون دفنها ، وإشعال جذوة الصراع كلما حاول البعض إطفاءها حتى يتحقق وعدُ الله الذى لا مفرّ منه ( فإذا جاء وعد الآخرة ليسوؤا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة وليتبروا ما علوا تتبيرا ) صدق الله العظيم ...