لأول وهلة، يبدو طرح هذا السؤال غريباً. فالقضية الفلسطينية ظلت مستعصية على الحل، منذ وعد بلفور عام 1917 . وخلال ما يقرب من مئة عام، استمر المشروع الصهيوني في التقدم، لكن الشعب الفلسطيني، رغم ما لحق به من أهوال ومناف وتشريد، بقي متمسكاً بحقه في تحرير أرضه، والعودة إلى وطنه.
طرح هذا السؤال مرات كثيرة، من قبل الفلسطينيين والمناصرين لقضيتهم العادلة. وقدمت أجوبة من قبل ممثلي الشعب الفلسطيني، تراوحت بين المقاومة المسلحة، واعتماد مقولة: إن ما أخذ بالقوة لا يسترد بغيرها، وبين نزوع إلى التسوية السياسية، بدأت معالمه في التعبير عن نفسها، منذ الدورة الثامنة للمجلس الوطني الفلسطيني، وكانت قمة ما توصلت إليه العملية السياسية، هي إنجاز اتفاق أوسلو المعروف بغزة- أريحا عام 1993. وبقي الوضع معلقاً، من دون تحقيق أي تقدم يذكر، منذ ذلك التاريخ.
في كل مراحل النضال الفلسطيني، تكفلت عدالة القضية، بالتفاف الشعب حولها . وبالمثل، تحقق التفاف واسع وكبير عربياً، حول القضية الفلسطينية، التي اعتبرت قضية العرب المركزية . لكن الوضع العربي، رغم حالة التجزئة التي شهدتها الأمة، منذ وضع اتفاقية سايكس - بيكو موضع التنفيذ، بقي في بنيته التحتية متماسكاً. وكان هناك دائماً شعور بأن العروبة هي الهوية الجامعة، مع توق شديد إلى تحقيق وحدة الأمة في المستقبل، عندما تتهيأ الظروف لذلك.
لكن صورة الوضع، تغيرت جذرياً، على كل الصعد. فتماسك الأمة، في بنيتها التحتية الذي أدى بنتائجه لصمود الكيانات الوطنية، التي ارتبطت بتحقيق الاستقلال، لم يعد على حاله. فقد شهدت السنوات الثلاث انهيارات كبرى، وسقوطاً لفكرة الدولة الوطنية.
صاحب ذلك انفجار اجتماعي، استحضر على السطح، وفي العمق أكثر المفاهيم تخلفاً وعنفاً. وقد أدى ذلك إلى تعميم حالة غير معهودة، في تاريخ العرب المعاصر، من الحروب الأهلية الطاحنة، في عدد غير قليل من البلدان العربية. وفي حمأة هذه الحروب، لم تعد فلسطين، كما كانت سابقاً، حاضرة، بقوة في الوجدان والضمير العربي.
وكان لهذا التحول، انعكاساته المباشرة، على التحالفات والتوجهات، داخل حركة الكفاح الفلسطيني. وكان تأثير المحاور العربية التي تشكلت حديثاً، واضحاً بشكل جليّ أثناء الحرب الصهيونية على غزة . والأمر لفرط مأساويته، شديد الحساسية.
ولا شك أن الوضع العربي المزري، له انعكاساته المباشرة، على الموقف العربي من الصراع الصهيوني. فأمام تغول الهويات الصغرى، وغياب استراتيجيات وطنية، تحافظ على الأمن والاستقرار، وتحول دون اشتعال حروب أهلية، لا يتوقع بروز استراتيجية عربية، تضامنية مع الأشقاء الفلسطينيين.
يضاف إلى ذلك، ما أشرنا إليه في الحديث السابق، من التخبط الذي يسود النظام العالمي، وعدم بروز قوى متكافئة، تعيد التوازن والاعتبار للنظام الدولي، فإن من غير المتوقع أن يمارس أحد من القوى الدولية الضغط، على الكيان الصهيوني الغاصب كي يسلم بالحقوق الفلسطينية، التي أقرت من قبل ما يعرف بالشرعية الدولية.
خطاب رئيس السلطة الفلسطينية، محمود عباس، من على منبر الجمعية العامة لهيئة الأمم المتحدة، في نهاية الأسبوع الماضي، يعكس بشكل كبير، مدى العجز والألم، من جراء فشل مفاوضات التسوية، برعاية أمريكية، ووساطة من قبل وزير الخارجية الأمريكي، جون كيري، بسبب تعنت العدو الصهيوني . ويطرح السؤال مجدداً: المسألة الفلسطينية إلى أين؟ وهو سؤال تقريري، ليس هدفه تقديم إجابة، إنما تشخيص مآلات هذه المسألة . فالصهاينة، سوف يواصلون بناء مستوطناتهم، ولن تفلح أي مفاوضات قادمة في إجبار العدو على التسليم بحقوق الشعب الفلسطيني، ما لم يتزامن ذلك باستراتيجية، كفاحية فلسطينية، تفرض على العدو التسليم بتلك الحقوق.
الاتفاق الفلسطيني الأخير، بين السلطة الفلسطينية، وحركة حماس، برعاية مصرية، من شأنه أن يعيد الاعتبار للكفاح الفلسطيني، شريطة أن ينطلق الموقعون عليه من نظرة استراتيجية، لمعنى الوحدة الفلسطينية، وألا يكون فعلاً تكتيكياً، هدفه تجاوز الحصار المفروض على "حماس"، من جهة، أو أن يكون ردة فعل مؤقتة من قبل السلطة الفلسطينية، من جراء فشل مفاوضات التسوية مع العدو الصهيوني.
سوف تحرص الإدارة الأمريكية، على تجميد الموقف الفلسطيني، في الأيام القادمة، مع تقديم تعهدات ووعود للسلطة الفلسطينية، كما في السابق، بأنها ستساعد الفلسطينيين، في نيل استقلالهم، وقيام دولتهم المستقلة، في حدود الأراضي التي احتلت عام 1967. لكنها لن تقدم على أكثر من ذلك.
فهذه الإدارة مشغولة الآن بما يعرف بالحرب على "داعش"، وليس من الواضح حتى الآن كيف تتجه هذه الحرب، وما هي تداعياتها على عموم المنطقة. يضاف إلى ذلك أن تجربة القضية الفلسطينية مع الرؤساء الأمريكيين السابقين، قد أكدت أن السنة الأخيرة، للرئيس في البيت الأبيض، تكون في العادة فترة انتظار . ولا يجري خلالها، تغيرات أو مبادرات جوهرية في السياسة الأمريكية، تجاه القضية الفلسطينية.
ومعنى ذلك، أنه سوف يفرض على السلطة الفلسطينية، إن أرادت مواصلة السير، على طريق المفاوضات بالرعاية الأمريكية، الانتظار ريثما تجري انتخابات أمريكية جديدة، ويتسلم الرئيس الجديد مهامه، وتتحدد سياساته . وهي فترة انتظار طويلة، ربما تستغرق أكثر من عامين اعتباراً من هذا التاريخ.
إن ذلك يفرض على السلطة الفلسطينية، ممثلة بحكومة الوحدة الفلسطينية، التي سوف تتشكل بعد الانتخابات التشريعية في الضفة الغربية والقطاع، أن تعيد النظر في استراتيجية المفاوضات، وأن تلجأ إلى وسائل كفاحية جديدة . فما حك جلدك غير ظفرك.