بقلم د. وليد القططي
سألني صديق: "لماذا أشعر بالذنب عقب استماعي إلى موسيقى الأخوين رحباني التي أحبها رغم أنها تساعدني على ارتخاء الأعصاب وهدوء النفس؟!"، فأجبته مبتدئاً بالجزء السهل من الإجابة وهو شعوره بالراحة النفسية عندما يستمع إلى الموسيقى، فالموسيقى نوع من الجمال، والإحساس بالجمال فطري في طبيعة الإنسان، والموسيقى جمال مسموع في لغة إنسانية تستخدم الأنغام والألحان فتُثير الوجدان وتُحرّك العواطف فتريحه. أما الشعور بالذنب، وهو ما خزّنه العقل في عمق الوعي من تعليمات دينية تُحرّم الموسيقى، تطفو إلى سطح الوعي على شكل تأنيب ضمير وشعور بالذنب على ارتكاب (اثم) الاستماع للموسيقى، فتُسبب الاضطراب النفسي.
هذا الاضطراب سببه جمود فكري في فهم النصوص الدينية تحجّرت عند تفسير مدرسة إسلامية ممتدة عبر الزمان والمكان زادت سطوتها مع اختلاطها بأموال البترودولار ترى في الفن رجساً من عمل الشيطان فمالت إلى تحريم معظم الفنون لا سيما الموسيقى والتصوير والتمثيل. وهذا يقتضي أن نوضح بعض النقاط حول الفن بشكل عام والفنون الجميلة الثلاثة والموسيقى والتصوير والتمثيل، فالفن نمط خاص من التعبير عن حقائق الحياة من وجهة نظر الفنان بطريقته الخاصة يُعبّر فيها عمّا في نفسه مستشعراً ما في الكون من جمال، فإذا التقت قيمة الجمال مع قيمة الحق، وارتبط الفن بمقاصد أخلاقية، وغايات سامية، وعبّر عن الوجود منسجماً مع التصور الإسلامي له، ومع مقاصد الشريعة الإسلامية، وبدون مخالفة لأحكامها أصبح فناً مُباحاً، وإذا كان عكس ذلك أصبح غير مباح... والقرآن الكريم تحدّث عن الزينة كتعبير عن الجمال المطلوب من الإنسان }يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ{، ونهى عن تحريم الزينة والجمال } قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ { ، وأرشدنا إلى قيمة الجمال في المخلوقات } ... وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ { إضافة إلى قيمتها النفعية.
والموسيقى كفن وفق المنهج الإسلامي توضع في خانة المباحات لذاتها، قد يُعرض لها ما يجعلها واجباً ومندوباً، أو حراماً ومكروهاً، رغم الصورة السلبية الطاغية للموسيقى والغناء الحالية فلا ينبغي أن تخرجها عن أصل الإباحة، كما لا ينبغي أن تُغطّي على الصورة الجميلة القليلة الموجودة حالياً في الموسيقى والغناء، ورأي حجة الإسلام أبي حامد الغزالي ويوافقه الكثير من العلماء المعاصرين منهم الشيخ محمد عمارة أنَّ الموسيقى والغناء فطرة إنسانية تُحاكي بها الصنعة الإنسانية الخلقة الإلهية التي أبدعها الله تعالى في الطيور والأشجار، فالصوت الجميل الصادر من حنجرة الإنسان هو محاكاة للأصوات الجميلة من حناجر الطيور، ومعزوفات الأوتار الصادرة من صنع الإنسان هي محاكاة لما تعزفه أوراق الأشجار وأغصانها عندما تهب عليها نسمات الرياح، فإذا كان من غير المعقول تحريم الأصوات الجميلة الصادرة عن حناجر الطيور وأنغام الأشجار، فمن غير المعقول منطقياً وفطرياً تحريم ما يصدر من حنجرة وعزف الإنسان، وهذا المنطق العقلي والفطري يتفق مع النصوص النبوية الصحيحة، ففي صحيح البخاري روت أم المؤمنين عائشة – رضي الله عنها- الحديث النبوي الذي أقرّها على سماع جارتين تُغنيان في بيتها، وكذلك قال r لها عندما زفّت امرأة إلى رجل من الأنصار "يا عائشة ما كان معكم لهو؟ فإن الأنصار يعجبهم اللهو". ما دام اللهو مُباحاً وبعيداً عن المخالفات الشرعية.
النظرة الإسلامية للتصوير كفن تشكيلي يخضع لنفس القاعدة في التحريم والتحليل، فقد حُرّمت الصور والتصوير في الأحاديث النبوية، ونهى الرسول r عن الأصنام المعبودة المُعبّر عنها بالإله أو الصنم أو الصورة، ففي حديث رواه البخاري ومسلم " يُجمع الناس يوم القيامة في صعيد واحد ثم يطلع عليهم رب العالمين ثم يُقال : ألا تتبع كل أمة ما كانوا يتبعون، فيتمثل صاحب الصليب صليبه، ولصاحب الصورة صوره، ولصاحب النار ناره، فيتبعون ما كانوا يعبدون، ويبقى المسلمون" فارتباط تحريم التصوير هنا بالشرك، وعندما لم تكن مظنة الشرك والعبادة كانت آية من آيات الله تعالى ونعمه }يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ {، أما عندما كانت مظنة الشرك والعبادة فلا بد أن تُحطّم } مَا هَٰذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ {، ولذلك حطّم الرسول r تماثيل المسجد الحرام. فالقضية قضية المقاصد وليست الصورة مجردة، ولهذا ترك الفاتحون الأوائل الآثار التي فيها صور وتماثيل في البلاد المفتوحة بسبب وعيهم الديني لهذه القاعدة، ولقد فسّر الإمام محمد عبده الحديث النبوي "إنَّ أشد الناس عذاباً يوم القيامة المصورين"، أي الصورة التي تسبب اللهو الشاغل عن الله، أو التبرك الممهد للشرك، فإذا زال هذان العارضان وقُصدت الفائدة كان تصوير الأشخاص بمنزلة تصوير مظاهر الطبيعة التي تحقق القيمة الجمالية والفائدة العلمية ولا خطر على الدين في ذلك لا من جهة العقيدة ولا من جهة العمل.
ولا تختلف النظرة الإسلامية للتمثيل كفن وعمل بشري يخضع للمعاملات المباحة في الأصل ما لم يرد دليل على تحريمها، والحكم الشرعي مبني على قرائن التمثيل الإيجابية أو السلبية، والواقع الحالي لفن ومهنة التمثيل هو سلبي، وهذا هو سبب التحريم وليس ذات التمثيل، فالتمثيل حرام إن كان هدفه نشر الرذيلة والشر وصاحبه مُخالفة لضوابط الشرع، وحلال إن كان هدفه نشر الفضيلة والخير ولم يصاحبه مُخالفة لضوابط الشرع، وفي فتوى لدار الإفتاء المصرية توضح حكم العمل بالتمثيل قال أمين عام الفتوى الشيخ محمد عبد السميع " إنَّ التمثيل مهنة مثل كثير من المهن يعتريها أحكام، فإذا كانت في ممارساتها تدعو إلى الخير وتأمر الناس بمكارم الأخلاق والفضيلة، وليس فيها مخالفة لأحكام الشرع فهي جائزة ومالها حلال"، وإذا كان معظم القائمين على مهنة وفن التمثيل عند العرب والمسلمين يوظفونه في اتجاهات مُخالفة لمقاصد الشريعة الإسلامية، ومناقضة لمعايير التصوّر الإسلامي، وغير ملتزمة بضوابط المعاملات الإسلامية، فهذا يستوجب من الآخرين أن يوظفوه في اتجاهات منسجمة مع مقاصد الشريعة والتصور الإسلام، وملتزمة بالضوابط الإسلامية، ليكون فن التمثيل وسيلة للدعوة إلى الإسلام، والتحريض على الثورة، ونشر الوعي بالدين والتاريخ وقضايا الواقع، ونشر الرواية العربية لدحض الرواية الصهيونية. وهناك نماذج لأعمال درامية جميلة ونافعة ساهمت في تقديم صورة مُشرقة للإسلام، وساهمت في خدمة قضايا الأمة الكبرى وفي مقدمتها قضية التحرر من الاستعمار والقضية الفلسطينية.
خلاصة الأمر أن المنهاج الإسلامي يجعل كل عمل الإنسان لوناً من العبادة لله تعالى، والمعاملات نوع من العبادة بمفهومها الواسع، الأصل فيها أن تُضبط بمعايير الشرع، وألاّ تخالفه لتكون مُباحة، وهو ما ينطبق على الفن بكافة أنواعه وأشكاله ومنه الموسيقى والتصوير والتمثيل، خاصة عندما يكون الفن محكوماً بالذوق الجميل، الذي يُعبّر فيه الفنان عما في نفسه، عندما يستشعر ما في الكون من جمال مُظِهر لعظمة الخالق، وعندما يكون الفن جزءاً من تزكية النفس، وترقيق المشاعر، وترقية العواطف، وتهذيب الذوق... ولكن دون أن يحوّل حياتنا كلها إلى فن وزينة يغرق فيها الإنسان بالمُتع الحسية واللذة المادية، ويغوص فيها في وحل عالم المنفعة واللذة. والفرق بين كون الفن جزءاً من حياتنا، أو كل حياتنا، كالفرق بين حاجتنا لحبيبات السكر من أجل تحلية المشروب، وإغراق المشروب بالسكر ليتحوّل إلى سكر، فالزينة مطلوبة لحياتنا كقيمة جمالية نحتاجها لإصلاح الفرد والمجتمع والأمة، وبقي لنا أن نحدد المضمون الذي يصلح الإنسان والمجتمع والأمة.