بقلم د. وليد القططي
في بداية مُبكّرة وغير موّفقة بدأ سياسي فلسطيني حملته الانتخابية بفرقعة قنبلة صوتية، أصابت إحدى شظاياها حركات المقاومة الفلسطينية ذات المرجعية الإسلامية، عندما قال: "كل الأطراف الموجودة لديها مشكلة مع الإسلام السياسي أو الإسلاموية السياسية". وبعيداً عن المشكلة التي تحدّث عنها طبيب الأسنان الحيران، فإنَّ مصطلح (الإسلام السياسي) فيه أزمة مزدوجة: إحداها أزمة مصطلح في المفهوم نفسه، والثانية أزمة نُخبة في الفئة المُستخدِمة للمفهوم.
جذور مفهوم (الإسلام السياسي) ممتدة لمرحلة ما بعد إلغاء الخلافة العثمانية في الربع الأول من القرن العشرين، عندما سقط آخر نظام سياسي إسلامي على يد القوميين العلمانيين الأتراك، فانقطع حبل الخلافة الإسلامية الممتد منذ دولة الخلافة الراشدة، فنشأت تيارات فكرية، وتكونت جماعات إسلامية، وأُسست أحزاب إسلامية... لاستعادة النظام السياسي الإسلامي (الخلافة) إلى الوجود والحكم، برز منها: تيار الجامعة الإسلامية، وجماعة الإخوان المسلمين، وحزب التحرير الإسلامي... وهذه التيارات والجماعات والأحزاب اصطلح على تسميتها بـ (الحركة الإسلامية) في إشارة إلى كل من يسعى إلى استعادة دور الإسلام الأساسي في حياة الأفراد والجماعات والمجتمعات والشعوب والأمة، انطلاقاً من الفهم الشمولي للإسلام عقيدة وعبادة وشريعة ومنهاج حياة ونظام حكم. غير أنَّ خصومها من المتغربين العلمانيين العرب اصطلحوا على تسمية الحركة الإسلامية بمصطلح بديل هو (الإسلام السياسي) في عملية نسخ لصق عن أساتذتهم من المستشرقين الأجانب.
(الإسلام السياسي) كمصطلح يستند إلى فكرة أساسية مضمونها: فصل الدين عن الحياة والسياسة، المستوردة من الغرب الأوروبي الذي عاش ظروفاً تاريخية اصطدم فيها الدين المسيحي الكنسي مع كل مكونات الحياة كالعلم والسياسة، فإضافة (السياسي) إلى (الإسلام) توحي بأنها ليست جزءاً منه، وكأنَّ الإسلام كدين ليس له علاقة بشؤون الحياة السياسية، وكأنَّ الحركة الإسلامية أقحمت نفسها في معترك السياسة بدون وجه حق لتحقيق أهداف سياسية ليست من أهداف الدين، أو كأنها استغلت الدين للوصول إلى أهداف غير دينية، أو وظفت الدين للسيطرة على الحكم. وإضافة إلى ذلك، فالمصطلح فيه اختزال للإسلام في أحد جوانبه (السياسة)، ويدل على وجود أنواع مختلفة للإسلام، فهذا إسلام سياسي، وذاك إسلام اقتصادي، وإسلام عروبي، وإسلام أمريكاني... وفي رفض استخدام المصطلح من هذا المدخل كتب المفكر الشهيد فتحي الشقاقي: "مسألة الفصل بين الدين والسياسة جاءت في قراءة التاريخ الأوروبي الغربي الحديث... الإسلام تجربة مختلفة تماماً... فهو في جوهره ومنذ لحظة تنزيله نظام للحياة ليسوسها على أسس من العدل والحق والخير والكرامة والسلام، دخول الإسلام على خط الحياة كاقتصاد وحرب وإدارة ونظم واجتماع لم يكن منفصلاً أو لاحقاً، بل جاء من أجل ذلك، ومن هنا مسألة الفصل ليست خاطئة فقط أو مُضللة فقط؛ ولكنها مستحيلة أيضاً... السياسة من منظور إسلامي هي عملية تجسيد الشريعة في دولة".
إضافة لدلالة مصطلح (الإسلام السياسي) السلبية في علاقة الإسلام بالحياة، وعلاقة الحركة الإسلامية بالسياسة، فقد ارتبط المصطلح بمفاهيم أخرى تحمل دلالات أكثر سلبية، وهذه المفاهيم بضاعة غربية باعها المستشرقون الأوروبيون لتلاميذهم المتغربين العرب، منها ما استخدمه السياسي الفلسطيني في مقابلته الصحفية كمرادف لمصطلح (الإسلام السياسي)، وهو مصطلح (الإسلاموية السياسية)، وهو مصطلح يحمل مضامين توحي بالتطرف والتشدد والتعصب، ومفهوم مُنحاز ضد الحركة الإسلامية يربطها بالعنف والإرهاب و (الإسلاموفوبيا). ومنها ما استخدمه الصحفي الكبير محمد حسنين هيكل في كتابه (خريف الغضب) عندما جعل الجزء الثالث من الكتاب تحت عنوان (الإسلام السياسي)، واستخدم مصطلح (الأصولية الإسلامية) كمرادف للإسلام السياسي، بمعنى العودة إلى الأصول الإسلامية الأولى، في سياق استعراضه لجذور الجماعات الإسلامية التي استخدمت العنف ضد المجتمع والدولة في عهد السادات. واستمر الكُتّاب والإعلاميون والسياسيون من النخبة العلمانية المتغرّبة المرتبطة بالأنظمة الحاكمة المتصارعة مع الحركة الإسلامية في استخدام تلك المصطلحات والمفاهيم السلبية وغيرها؛ في إطار شيطنة الحركة الإسلامية، وعمدوا إلى ترسيخ خطاب الكراهية والإقصاء ضدها.
ترسيخ خطاب الكراهية والإقصاء ضد (الحركة الإسلامية) أو ما سُمي بـ (الإسلام السياسي) من النخبة المُتغرّبة، وجد من يزوده بالوقود من خطاب التيار المُتطرف التكفيري المنتسب للحركة الإسلامية، الذي جاء كرد فعل للقمع الدموي للأنظمة الحاكمة المستبدة والفاسدة لشعبها وللحركة الإسلامية، واستجابة للفهم الحرفي الجامد للنص، وقد استغلوا تطرف هذا التيار بأجنحته المختلفة في قضايا سياسية واجتماعية وثقافية متعددة، كالمواطنة والديمقراطية والحرية والمرأة وغيرها، لاتهام (الإسلام السياسي) بالرجعية والتخلف والجمود والتحجّر، كما استندوا على ممارسات بشرية خاطئة في التعامل مع الآخر المسلم وغير المسلم، وفي الوصول إلى السلطة أو ممارستها؛ ليثبتوا ما أسموه فشل الإسلام السياسي فنشروا كتباً ومقالات بعناوين مدلولاتها تعني أن (الإسلام السياسي) قد فشل وانتهى إلى غير رجعة، ومنها كتاب المستشرق الفرنسي (أوليفييه روا) بعنوان: فشل الإسلام السياسي عام 1992، وتبعه آخرون بعناوين مشابهة منها: مأزق الإسلام السياسي، وأزمة الإسلام السياسي، وانحسار الإسلام السياسي، وتهشّم الإسلام السياسي، وما بعد الإسلام السياسي... والإسلام السياسي الذي يتحدث عنه هؤلاء ليس الإسلام السياسي الذي تحدث عنه الدكتور مصطفى محمود في كتابه (الإسلام السياسي والمعركة القادمة)، ومن ملامحه تجاوز الإصلاح الفردي إلى الإصلاح الاجتماعي والحضاري، الإسلام الذي ينازعهم السلطة في توجيه العالم وبنائه بقيم أخرى، والذي يريد أن يُحرّك الحياة بمبادئ مختلفة، الإسلام الذي يريد أن ينهض بالثقافة والعلم والاختراع والتكنولوجيا؛ ولكن لغايات أخرى غير التسلّط والغزو والعدوان والسيطرة.
إذا كانت النخبة العربية العلمانية المتغرّبة قد استغلت تطرف بعض الحركات المنتسبة للإسلام على مستوى الفكر والممارسة، وتخبط مواقفها وتحالفاتها، وتقديم مصالحها على مبادئها؛ فأطلقت عليها مصطلح (الإسلام السياسي)، ثم شوّهت مضمونه وعممته على كل الحركة الإسلامية بتياراتها الفكرية المتباينة، فإنَّ النخبة الفلسطينية التي تنتمي إلى نفس المدرسة قد سارت على دربها، دون أن تدرك خصوصية الحركة الإسلامية الفلسطينية كحركة مقاومة وطنية بمرجعية إسلامية، أو حركة إسلامية قضيته المركزية وطنية، فوضعتها في قائمة (الإسلام السياسي) وأسقطوا عليها كل مضامينها ومدلولاتها السلبية، ولذلك رد عليهم المفكر الراحل رمضان شلح رافضاً تسمية الحركة الإسلامية الفلسطينية بالإسلام السياسي، فقال: " نحن لسنا حركة إسلام سياسي، وأتحدث عن الحركة الإسلامية في فلسطين، وخصوصاً حماس والجهاد، ونرفض هذا المصطلح الذي نحته وصاغه الغرب وتردده أبواقه بيننا لتشويه الإسلام، لأنَّ المراد بهذا المصطلح أنَّ الإسلاميين أدخلوا السياسة في الإسلام فشوّهوه وحرّفوه. نرفض هذا المصطلح لأنّه مُضلل وكاذب، لأنَّ الإسلام في فهمنا لا يخضع للسياسة؛ بل الإسلام هو الذي يوّجه السياسة، ويحميها من التيه والضياع، وصولاً إلى التماهي مع العدو... لذلك نحن لسنا إسلاماً سياسياً، ولكن سياستنا إسلامية".
(الإسلام السياسي) أزمة مصطلح مستورد من الغرب، ينتمي لسياق تاريخي مختلف، استُخدم كبديل عن مصطلح (الحركة الإسلامية) الأصيل، وإنْ كان لا بد من استخدام المصطلح، فالإسلام السياسي الذي يعرفه الأحرار، يختلف عن الإسلام الذي يعرفه العبيد، الإسلام الذي يوّظف الدين لخدمة السياسة، فيتعايش مع الاستبداد والفساد والظلم والتبعية والاحتلال، أما الإسلام السياسي الذي يعرفه الأحرار يجعل الدين موّجهاً للسياسة، فيدفع الناس إلى التمرد والثورة على الاستبداد والفساد والظلم والتبعية والاحتلال. (الإسلام السياسي) أزمة نخبة متغربة تستورد مفاهيمها وثقافتها من الغرب، وتنتمي لإطار فكري وسياق تاريخي مختلف عن إطار وسياق الأمة، وتحتكر مفهومي الإسلام والوطنية في إطار مدرستها الفكرية السياسية.