بعد نجاح فيلم الرسالة قام أحد رجال الأعمال بعمل حفلة على شرف مخرج الفيلم مصطفى العقاد بالقاهرة، وكان من ضمن المدعوين الممثل توفيق الدقن، وكان غاضباً بسبب استبعاده من المشاركة في الفيلم، وأثناء الحفل توّجه توفيق الدقن إلى الطاولة التي يجلس عليها مصطفى العقاد، وبدون تحية قال له: "ممكن أسأل سؤال محيرني يا أستاذ مصطفى لا مؤاخذة هوَّ أنا ليه ماكنليش دور في فيلم الرسالة؟! وأنا فنان مصري معروف زي ما أنت عارف وسمعتي زي البريلنت"، فطلب منه العقاد أن يهدأ ويجلس ليحدثه، فرفض الدقن الجلوس وهو ينتظر الإجابة منه أمام الضيوف، فقال العقاد: "أستاذ توفيق أنت فنان بارع، وهذا لا يختلف عليه اثنان، ولكن تعرف خصوصية الفيلم إسلامي ديني، وأنت أدوراك فيها الشخص اللعوب والحرامي والبلطجي والسكير وغير الملتزم"، فردَّ عليه الدقن بشكل ساخر أمام المدعوين: "والله عال عال يعني أنت خايف على سمعة الإسلام مني مش كده؟!... يا أخي كنت أخذتني مع الكفار... كنت خليني أبو لهب؟!".
السبب الذي جعل المخرج السوري مصطفى العقاد يستبعد الممثل المصري توفيق الدقن من فيلم الرسالة الإسلامي، هو الصورة النمطية المرسومة في السينما عن شخصيته الشريرة، وعدم قدرته الخروج من عباءة الشر التي لبسها من أول مشواره الفني، عندما لبس فيه قناع الشرير في كل أدواره الدرامية، في المسرح والسينما والتلفزيون والإذاعة، وكان صادقاً في التوّحد مع شخصياته المُمثَلة، فأقنع مشاهديه بالشخصية النمطية الشريرة التي تلبّسها لدرجة عدم تخيلّهم وجوده في شخصيات خارج نطاق الشر والجريمة، حتى عندما يُشاهده جمهوره في حياته الخاصة وشخصيته الحقيقية، وقد سبب له ذلك مشاكل طريفة عديدة في حياته، منها أنَّ جزاراً طرده ولحقه بساطور عندما جاء يشتري منه لحمة لأول مرة... وهذا النموذج يختلف عن نموذج بطل فيلم (الأرض) الفنان محمود المليجي الذي تحرر من عباءة الشرير في الفيلم ليقوم بدور (محمد أبو سويلم) الفلاح المصري المُكافح الصامد في أرضه المُقاوم لثالوث الاحتلال والملكية والاقطاع فأقنع جمهوره بشخصيته الجديدة.
عدم تخيّل القيام بأعمال تُخالف طبيعة الشخصية التي عُرفت للجمهور ليست فقط في التمثيل والدراما، فهو في الحياة الواقعية، فما الدنيا إلاّ مسرح كبير كما قال عميد المسرح العربي يوسف وهبي، بل إن الأعمال الدرامية هي تمثيل للواقع في معظمها، والواقع السياسي خير دليل على ذلك، فالشخصيات السياسية تلعب دوراً نمطياً مُحدداً لا تكاد تتغير طوال حياتها السياسية، يعرفها الجمهور بها وتتطور شخصياتها داخل نفس الدائرة النمطية، لا سيما في البلدان العربية التي تحتكر فيها النخبة السياسية السلطة والثروة، باعتبار أنَّ السلطة عند العرب طريقاً للحصول على الثروة، وتظل على ذلك على مدار عقودٍ طويلة لا يقطعها سوى انقلاب عسكري يأتي بغيرهم، أو ثورة شعبية تُطيح بعرشهم، أو غزو خارجي يستبدلهم... وفلسطين ليست بدعاً من البلدان العربية، وإن كانت لا زالت تعيش مرحلة الثورة، فخلطت معها بعض السلطة، فأصبحت النخبة السياسية موّزعة ما بين الاحتكارات الثلاثة – السلطة والثروة والثورة- وقد تجمع بينهن كلهن أو تكتفي باثنتين منهن، فعاشت في أدوار نمطية لا تكاد تتغير، لا سيما منذ أكثر من ربع قرن مضى عندما أُنشئت السلطة فتبعها الانقسام وما تبعهما من جولات حوار المصالحة المتنقلة بين شتى العواصم من مكة إلى اسطنبول مروراً بغزة والقاهرة والدوحة وموسكو... ولا زال فيلم المصالحة مُستمراً، ولم يعد يجذب المشاهدين، ولا زال الجمهور الفلسطيني المُشاهد لفيلم المصالحة غير واثق بأدوار المصالحة وغير مُصدّق له وغير مقتنع بأبطاله بعدما لعبوا أدوار الانقسام ردحاً من الزمن.
عدم اقتناع معظم الجمهور الفلسطيني، أكدته استطلاعات الرأي العلمية، وتقارير الإعلاميين الصحفية، فعقب كل اتفاق مصالحة كان الشعب الفلسطيني يتفاءل في البداية، ولكنه يعود للتشاؤم بعدما يُطلق أول تصريح يتهم الطرف الآخر بتعطيل المصالحة، مُعلناً البدء بجولة جديدة من الردح السياسي المتبادل عبر كل فضائيات الأرض العربية وأحياناً الأجنبية، حتى فقد الشعب ثقته بالحوارات والاتفاقيات مُفضّلِاً الانتظار للتطبيق الذي يحتاج لعشرات الحوارات والاتفاقيات التفصيلية الأُخرى، وحول آخر جولة حوار في اسطنبول أظهر استطلاع رأي قام به المركز الفلسطيني للدراسات السياسية والمسحية في سبتمبر الماضي أن حوالي (60%) من الشعب الفلسطيني غير متفائل بنجاح المصالحة، وفي تصويت الكتروني لموقع وكالة وطن للأنباء انتهى بنهاية شهر اكتوبر الماضي اتضح أن (76%) من المشاركين بالتصويت أجابوا (لا) على سؤال :" هل تعتقد أن إجراء الانتخابات العامة بات قريباً في ظل أجواء المصالحة الإيجابية؟". وكان ما قالته إحدى الطالبات الجامعيات لوكالة الرأي الفلسطينية عام 2011 م تعبيراً واضحاً عن خيبة الأمل الشعبية "كثيراً ما كنت ولا زلت أتابع الأخبار باستمرار وخاصة فيما يتعلّق بالمصالحة، وفي كل مرة تجدني وتجد الكثيرين تتحطم أحلامهم على صخرة الانقسام المرير، فتشعر وكأن الانقسام أصبح جزءاً منا لا يمكن أن تمحوه الأيام، لذلك ونتيجة لهذه التخاذلات في تطبيق المصالحة أصبحت لا اكترث بما يدور بين الجانبين، لأنه في النهاية سنسمع خبراً أن هذا انتهك الاتفاق فلم يعد هناك مصالحة ولذلك أريّح عقلي من التفكير بها".
عدم قناعة الجمهور الفلسطيني بنجاح تطبيق اتفاقيات المصالحة المتكررة سببه تكرار الفشل في تطبيق الاتفاقيات السابقة على أرض الواقع، وارتباط الشخصيات السياسية القائمة على حوارات المصالحة، بصور شخصيات نمطية مرتبطة بأدوار الانقسام الذي لعبته في الماضي، ثم الإخفاق السياسي بتطبيق اتفاقيات المصالحة السابقة. ولكن تبقى فرصة أمامهم للخروج من هذه الصورة النمطية السلبية إلى الصورة النمطية الإيجابية إذا ما امتلكوا الإرادة السياسية وقرروا تطبيق اتفاقيات المصالحة فعلاً ، فهل ينجح أبطال فيلم المصالحة الفلسطينية في السير على خُطى بطل فيلم الأرض؟!، أم يبقوا أسرى شخصياتهم النمطية في فيلم الانقسام؟!