بقلم: راغدة عسيران
"هبة القدس والأقصى" هي عنوان مشاركة فلسطينيي 48 في انتفاضة الأقصى في شهر أكتوبر/تشرين الأول في العام 2000. لم تدم المواجهات بين الفلسطينيين وقوات الإحتلال إلا حوالي أسبوع، ارتقى خلالها 13 شهيدا من أبناء فلسطينيي الداخل برصاص شرطة الاحتلال، التي استهدفت الجماهير الغاضبة المحتجة على تدنيس (أرئيل) شارون للمسجد الأقصى. تعامل الصهاينة مع المحتجين السلميين في الداخل بنفس الوحشية التي واجهوا فيها الجماهير الغاضبة في الضفة الغربية المحتلة وقطاع غزة، فقتلوا وجرحوا واعتقلوا، دون تمييز بين من صنّفوهم "مواطنين عرب" وغير مواطنين، فكان الكل "أعداء".
في "هبّة القدس والأقصى"، زالت الحواجز بين 48 و67، وسقط "الخط الأخضر"، وتوّحد الشعب الفلسطيني على أرضه المحتلة، وواجه المحتلّ ذاته الذي توحّد من ناحيته ضد الشعب الفلسطيني، وسقطت الأقنعة، لم يعد هناك تمييز بين اليسار واليمين الصهيوني، بين الليبرالي والفاشي. اتفق الكل الصهيوني على محاربة الفلسطيني، إعلاميا وأمنيا وسياسيا.
في هبّة القدس والأقصى، لم تكن المعركة من أجل المواطنة والحقوق المدنية، بل كانت من أجل حرية الشعب الفلسطيني ضد الطغاة المحتلين، الذين يدنسون المقدسات ويستولون على الأراضي لإقامة المستوطنات ويقتلون ويعتقلون من يرفض سيطرتهم.
كانت "هبّة القدس والأقصى" رفضا لاتفاقيات أوسلو التي أبعدت فلسطينيي 48 عن النضال الوطني الذي اختُصر على إقامة سلطة فلسطينية على أجزاء من الضفة الغربية وقطاع غزة. خلال هذه الأيام وما تلاها، ذكّرت جماهير الداخل بوجودها الى جانب شعبها، وشاركت في المعركة، ليس فقط خلال الأيام الأولى، بل واصلت مشاركتها في انتفاضة الأقصى من خلال انخراط شبابها وشاباتها في العمل المسلّح، ومن خلال تواصلها مع شعبها في الضفة الغربية وقطاع غزة وفي اللجوء، والعمل على إغاثة العائلات المنكوبة ودعمها بشتى الوسائل.
بعد الأيام التي هزّت المجتمع الصهيوني الذي اكتشف أن فلسطينيي 48 هم فلسطينيون وليسوا "عرب إسرائيل"، واكتشف فلسطينيو الداخل أنهم باتوا رقما صعبا في المشهد المحلي والفلسطيني، تصاعدت المواجهة في كافة الميادين، رغم القمع الصهيوني المؤسساتي. من إحياء يوم النكبة الى مسيرات العودة الى القرى المهجّرة؛ من التحركات الشعبية لدعم المسجد الأقصى والوقوف أمام تهويده والمسيرات الى مدينة القدس المحتلة الى دعم قرى النقب غير المعترف بها؛ من توثيق المقدسات وإعادة إحيائها الى رفض التجنيد في المؤسسة الصهيونية؛ الى جانب الدفاع عن المعتقلين، ومنهم الشيخ رائد صلاح الذي واجه الاعتقال (وهو معتقل اليوم) ثم محاولات الإغتيال، والتصدي للملاحقات السياسية.
توّج هذا النهوض الوطني الشعبي بما سميّ وثائق "التصور المستقبلي" (ثلاثة وثائق) التي طرحتها مؤسسات فلسطينية في صراعها مع الصهاينة. رغم سقفها المحدود بالنسبة الى المشروع الوطني الفلسطيني الشامل، شنّ المحتلون الصهاينة ومؤسساتهم حملة قمعية واسعة ضد من تجرأ وطالب بـ"المواطنة المتساوية" ورفض الكيان الصهيوني ك"دولة يهودية".
منذ ذلك الحين، تحاول المؤسسة الصهيونية نزع الشرعية عن الوجود السياسي الفلسطيني في الداخل المحتل عام 1948، ومحاصرته ضمن مطلب "المواطنة" و"الحقوق المدنية"، تلك الشعارات التي ترفعها الأحزاب المشاركة في الكنيست الصهيوني.
لقد تم ضرب الحركة الإسلامية (الجناح الشمالي) وملاحقة مؤسساتها الداعمة للقدس والمقدسات وللمجتمع الأهلي، وأقيمت المستوطنات اليهودية داخل المدن الفلسطينية أو في لصقها، وسنّت الكنيست قوانين لهدم المنازل ومنع إحياء النكبة وقوانين أخرى تهويدية، التي توّجت بـ"قانون القومية" المهدِّد للوجود الفلسطيني في وطنه.
لا يمكن فصل ما يقوم به العدو في الضفة الغربية وحروبه ضد قطاع غزة بعد اندحاره عنها، وتعامل السلطة الفلسطينية التي استمرت بالتنسيق الأمني معه وملاحقة المقاومين ومنع أي مواجهة شعبية للاستيطان والتهويد، عن الوضع في الأراضي المحتلة عام 1948، حيث وقفت قوى سياسية بارزة لمنع إعادة ترتيب "البيت الداخلي" من خلال إحياء دور لجنة المتابعة العليا للجماهير العربية، واكتفت بإنتخابات الكنيست الصهيوني، بدعم من السلطة الفلسطينية، لتترأس المشهد في الداخل.
وكما هو الحال في الضفة الغربية، تعمل هذه القوى على تقويض الأصوات الحرة التي أقدمت على إسقاط مخطط "برافر" في النقب (المتواصل تحت مسمى آخر) والتي رفعت الأعلام الفلسطينية في حيفا تضامنا مع مسيرة العودة في قطاع غزة. في ظل هذه القيادة، بات الفدائي المجاهد "مجنون" ومختل عقليا" (الشهيد مهنّد العقبي مثالا)، وأصبحت المطالبة بالشرطة الصهيونية داخل البلدات الفلسطينية مطلبا "وطنيا" لمحاربة تفشي الجريمة، وعدم رفع الأعلام الفلسطينية في المظاهرات العامة في الكيان "تجنبا للاستفزاز"، ومن كان يعتبر خلال سنوات انتفاضة الأقصى أن "المواطنة الإسرائيلية فرضت علينا"، أصبح يناضل من أجلها، ومن كان يقاطع إنتخابات الكنيست الصهيوني أصبح يبرّر مشاركته فيها "لأنها باتت أمل أهل الضفة الغربية"، وتوصية القاتل بني غانتس لرئاسة الحكومة الصهيونية من قبل "القائمة المشتركة" عملا واقعيا جدا.
ارتفعت الأصوات المنتقدة لهذه الشعارات الاستسلامية، لكن المعارضة لها غير موحّدة، تماما كما هو الوضع في باقي الأراضي المحتلة، بل أكثر من ذلك، حيث يشارك بعضها في تسويق جدوى المشاركة في إنتخابات الكنيست الصهيوني، ويطالب غيرها بإقامة دولة واحدة مع المستوطنين اليهود، ويكتفي الإخرون بالنضالات المحلية وبالعودة الى التاريخ، بانتظار النهوض العام، ويسعى البعض الآخر الى توحيد الجهود والوقوف الى جانب كل من يواجه المحتل.
لقد أثرت الصراعات الإقليمية على المشهد السياسي في الداخل، واستغل الصهاينة هذه الأوضاع لتمرير مشاريع تهويدية وقمع الحريات واتهام المناضلين الوطنيين بالعمل لصالح أعداء الكيان، فلسطينيا أم إقليميا. ولكن لم تتبخّر كليّا إنجازات "هبة القدس والأقصى" وما تلاها من
معارك وطنية، والصراع مستمر بين قيادة ترى في السلطة الفلسطينية وأركانها دعما لها ولتطلاعتها الاندماجية في كيان العدو، وأجيال لا ترى مستقبلها مع مجتمع عنصري، وتبحث عن تحرّرها، إذ لم تترك لها سيطرة اليمين الفاشي على المؤسسة الصهيونية الكثير من الخيارات، ولا بد لها من المواجهة.
قد تأخذ هذه المواجهة أشكالا مختلفة، من العمل الجهادي الى العمل الثقافي والفني، مرورا بالتصدي للهدم والتهويد.
لقد أثبتت التحركات الشعبية ضد "برافر"، التي خرجت من البلدات العربية واحتلت المرافق العامة "اليهودية"، والمشاركة في "اسطول الحرية" ضد حصار قطاع غزة، والتحركات الشبابية ضد التجنيد في جيش الاحتلال، والدفاع عن مقبرة الإسعاف في يافا وعن البيوت المهدّدة بالهدم في أكثر من بلدة فلسطينية، أن فلسطينيي الداخل جزء لا يتجزأ من الشعب الفلسطيني، لا يرهبه القمع والتهديد، رغم الصعوبات الآنية وتراجع البعض.
هي مرحلة انتظار الانتفاضة المقبلة الشاملة التي قد تطيح بالقيادات الحالية التي أعاقت الطروحات الوطنية بتركيزها على المطالب المدنية.