لم يكن خبر موافقة الاتحاد السوفياتي على قرار تقسيم فلسطين في وقته عادياً، ولا معبّراً عن موقف مبدئي أو قرار مدروس بأبعاده الاستراتيجية، بل كان قاسياً وصعب الهضم عملياً، (كما يُقال)، ليس لدى قيادة الحزب الشيوعي السوفياتي وحدها وقيادة الدولة وحسب، بل لدى الأحزاب الشيوعية، و«المعسكر الاشتراكي»، والأبرز فيها طبعاً الأحزاب الشيوعية في الوطن العربي.
كانت غالبيتها في موقف رافض لأي قرار معادٍ للشعب الفلسطيني ومبدأ احترام نضال الشعوب وتقرير المصير واعتبار الغزو الصهيوني استعماراً. وموقفها منطلق أيضاً من كون القرار سنّ شرعة قيام كيان مصطنع وتحت حجج فيها كثير من عنصرية وعوامل معارضة لواقعها، من جهة، ولا تبرّر التفسيرات التي برّر بها، من جهة ثانية، وربما سقط الموقف السوفياتي تحت ضغوط المصالح الدولية أو التنافس الدولي، من جهة أخرى، وهي الأبرز في الواقع والممكن في فنّ السياسة. فلا فلسطين أرض الميعاد السياسية التي ادّعوا، ولا الشعب الفلسطيني هو المسؤول عن قتل اليهود في أوروبا وطردهم من مدنهم وصنع الهولوكست لهم، بل حدث بالعكس تماماً، حيث اقترف الصهاينة وأسيادهم هولوكست فعلياً بالشعب الفلسطيني وعلى أرضه وتراثه وتأريخه، ولا يمكن التعويل على جاليات مهاجرة أن تبني وطناً للاشتراكية والديمقراطية في المنطقة. ولهذا، أدّت الموافقة إلى كارثة ما يحصل الآن، وصنعت ارتباكاً سياسياً وإحراجاً تاريخياً لا تعوّضه التبريرات والأعذار الرسمية. فقد ارتكب اغتصاب أرضٍ مأهولة وتشريد شعبٍ آمن، وقيام كيان استيطاني عدواني وأداة للاستعمار وقاعدة عسكرية متقدّمة للإمبريالية العالمية، تقاسمته القوى الغربية ذات المصلحة والقوة، البريطانية والأميركية، وبالتنسيق والتخادم الغربي عموماً والعربي خصوصاً. وارتكب الكيان مجازر وحروباً عدوانية، كما شكّل منذ إعلانه خطراً على الأمن والسلم في المنطقة والعالم. وكلّ هذا حصل في ظروفٍ وصراعات المحاور والتحالفات الدولية ومشاريع تنظيمات عنصرية استثمرت في قدرات، وتمكّنت في فرض خيارات لها على حساب الحق والعدل والإنسان.
وهذا الأمر أصبح معروفاً لكلّ ذي بصر وبصيرة، كان المركز الشيوعي قائماً ومؤثراً في القرار السياسي، وبما أنّه لم يعد بعد الانهيارات التي حصلت والتي تأرّخت بسقوط جدار برلين، فلا بدّ من تصحيح الموقف والنظر إليه من منطلقات واقعية جديدة تعبّر عن المصالح الوطنية والقومية والعمل بجدية لدور مؤثّر وفعّال في حركة التحرّر الوطني. وكما انتهت الأحزاب الشيوعية في اجتماعاتها المشتركة، من تأثير المركز وضغوطه فلا بدّ لها الآن من الوضوح مع نفسها ونظريّتها وموقعها من الصراع الفكري والسياسي والتحرّري.
جاءت خطوة التطبيع المعلن، الآن، بين دول عربية عدة والكيان، بقرار صهيو ـــــ أميركي، فرصة للأحزاب السياسية عموماً، واليسارية خصوصاً، لإعلان موقف واضح منها، وتبني الموقف الصريح والصحيح والمعبّر فعلاً عن التغيير المنشود فيها كأحزاب يسارية، وفي إطار تطوّرات الواقع وصيرورة العملية الثورية التحرّرية.
وقد أصدرت الأحزاب الشيوعية وبعض القوى والمنظمات اليسارية والعمالية في البلدان العربية، بيانات إدانة واستنكار منفردة، في أدبياتها ووسائل إعلامها المحدودة، ما يعني أنّها متقاربة في موقفها العام ممّا جرى وحصل عملياً، وجاء لفائدتها سياسياً وطبقياً. فالحكومات التي أقدمت على التطبيع والغدر بالقضية الفلسطينية، حكومات رجعية وراثية متخلّفة أيديولوجياً ومرتهنة بمصيرها للإمبريالية العالمية، ومتواطئة مع المشروع الصهيوني منذ البدايات، ولكنّها تتغطّى دائماً بالغطاء الديني الإسلامي و القدس الشريف، ومسرى الرسول... وتعمل في الوقت نفسه في تخريب العلاقات الأخوية الفلسطينية الداخلية والخارجية، والعربية عموماً. نُشر وعُرف الكثير من بيانات صادرة عن الأحزاب الشيوعية في مصر ولبنان والأردن والعراق وسوريا والسودان، ومنظّمات واتحادات وقوى يسارية في تونس والمغرب والبحرين والكويت، وربما في غيرها أيضاً. وأجمعت هذه البيانات على إدانة التطبيع واعتباره مذلّة واستسلاماً ومجانياً وغدراً بالقضية الفلسطينية، وإنكاراً لحقوق الشعب الفلسطيني، واستهانة بالقانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة، وكلّ القوانين والاتفاقات الدولية التي يستند إليها نضال الشعب الفلسطيني وداعميه من العرب وأحرار العالم. هذا الموقف، في هذه اللحظة، سليم ومطلوب، ولكنّ الرفض والاستنكار والشجب لا تعني التجريم والتحريم، وقد يتحوّل ذلك إلى مهادنة واتفاق وتبرير للأحوال والمتغيّرات والضغوط، كما حصل في عام النكبة... وهنا السؤال والتأكيد على تصحيح الموقف، وإصدار توضيح يبيّن موقف اليسار التاريخي من القضية الفلسطينية والتحرّر الوطني وتقرير المصير وعدالة قضايا الشعوب.
أمام هذه القضية الحساسة والمهمة والراهنة، الآن أكثر من أي وقت آخر، يجب التفكير في أمور أخرى، تتعلّق بطبيعة المرحلة والقضايا الراهنة والموقف الطبقي والعلمي منها. من بينها مصطلح اليسار، الذي يتطلّب إعادة نظر معاصرة، إذ يتوجّب تعريفه ليس كما كان لكلّ من يحمل اسمه أو الشيوعية لفظياً، وإنما ارتباطاً بالمواقف والعمل الثوري الذي يقوم به ويقوده نظرياً وعملياً. فليس صحيحاً أن تكون يسارياً وتتعانق مع القوى الرأسمالية والإمبريالية، مصيراً ومسيرة، أو التقارب إلى أدواتها وركائزها السياسية والاجتماعية في الكفاح الاستراتيجي، وتبني برامجها ومناهجها في العملية الثورية وقبول قيادتها لها، حتى في ظروف انحدارها وتذبذبها السياسي والفكري على مختلف الصعد. حيث يصحّ السؤال هنا: كيف تميّز اليوم بين اليسار واليمين في السياسة والمواقف الفكرية والعملية؟
كشف إعلان التطبيع السياسي بين عواصم وحكومات عربية والكيان الإسرائيلي بقرار أميركي، وبتغريدة رئيس أميركي، في الأسابيع الأخيرة السابقة لموعد الانتخابات الرئاسية، عن استسلام رسمي عربي مهين ومذل، لا يشفع أو يعطي أيّ تبرير لما أُعلن وقُرّر لهم، ما لم يستطيعوا البوح به علنياً ورسمياً... وهذا الوضع لا بدّ من تحليله واقعياً وتقييمه عملياً، ووصفه في إطار صيرورة العملية التحريرية لشعوبنا العربية ولقضية الشعب الفلسطيني خصوصاً، وعاجلاً.
المحك الآن لكلّ من يعتبر نفسه من اليسار، في توضيح صوته وصورته، لا تلاعب في الألفاظ والعبارات ولا دوَران حولها. الكيان الاستيطاني في فلسطين المحتلّة صنيعة استعمارية لمشاريع وخطط تفتيت الوطن العربي وتدمير وحدته وحرمانه من التحديث والتطوّر والتقدّم، ولا يمكن في هذه الحالة التفرّج على ما يقوم به وانتظار نتائجه، وهذه مجرّد إشارة وانتباه وعلى الأحزاب والقوى معرفة مكان أقدامها من الآن وقبل فوات الأوان.