"مرّيت ع القدس
قالوا النّبي زعلان
باعوا الأذان
تيشتروا بُستان
قاعد بو لهب مرتو معو
محمِّل على ضهرا حطب
بَرْدَان عَمْ يوقِد عَرَبْ"!
هكذا ينعي شاعر العامية اللبناني الشهير طلال حيدر العرب، بعد مآثر أوسلو وأمجاد وادي عربة..
وهكذا هو التاريخ ..وهذه هي قيمة من يُصرون على الشخير خارجه..
أن يصبحوا كومة من حطب تُشعل دفء جلاديهم أو حفنة من عرب لا يهمهم "زعل النبي" طالما نالوا "رضى أمريكا".
أسرجوا الخيل واقرعوا الطبل لمواكب أصحاب الجلالة، والفخامة، والسموّ، فها هو "شجر الوهم الوارف" يُثمر، وها هي "رؤى السراب الزاحف" تتحقق وها هو "غثاء السيل الجارف" يعلو، فيُصوّت الكونغرس الأمريكي بالأغلبية الساحقة، أن القدس هي العاصمة الموحدة لـ"إسرائيل" إلى الأبد.
هاتوا إدوارد سعيد يُقسم لنا أن هذا السلام "استسلام بلا حدود وأنه عار شديد" هاتوا محمود درويش ليؤكد أنه سيُحيلنا "حفنة من تراب".. هاتوا نزار قباني ليصرخ: "ليس هذا الثوب ثوبي... ليس هذا العار عاري" ويا "طير البرق "! هل تستطيع أن تحمل مظفر النواب إلى نيويورك؛ ليصارحهم بحقيقتهم أن شيئا ما (!) "أطهر من أطهرهم".
كانوا هناك في نيويورك، لكنهم لم يسترقوا السمع وراء أبواب الكونغرس.. لم يحبسوا خناجرهم، ولم يتنافخوا شرفاً لصرخات بكارة القدس... كانوا يبحثون لهم عن موطن قدم في الصورة "العائلية" مع الطاووس العالمي في الذكرى الخمسين للمأسوف على نبلها وعدالتها الأمم المتحدة!.
كانوا يشاركون التنين الأمريكى احتفاله بانتصار نظام النهب العالمي وسيادة البشاعة في زمن التحولات الكبرى، والانتصارات الكبرى، وأيضا الانكسارات الكبرى.
في الأمم المتحدة حضر الصغار والكبار والتأم الشمل العالمي (!) وغابت فلسطين وحضرت الكوفية.. فهذه بعض كسور المعادلة "الأرض مقابل القماش"!.
في الكونغرس اجتمع حكماء صهيون، فاكتمل السلام العالمي على جثة القدس!.
وبعد ساعة من إعلان الخبر كنا نصفق لرابين وهو يعلن انتصاره وانكسارنا.. كنا نتأمل شكل المستقبل الفلسطيني في تقاطيع وجهه ووعده (الجميل)، لنا بالخبز والحرية.. كنا نبحلق في أسمائنا المستعارة التي يخلعها علينا ومساحة الذل التي يفرزها لنا بين الظفر والناب.
هل تقرع أمريكا بقرار الكونغرس هذا طبول الحرب الصليبية من جديد؟ وهل توقفت هذه الحرب ضدنا منذ قرون أصلاً؟! كل ما في الأمر أن علينا أن نقبل بقبعة زرقاء للحلف الأطلسي بين قبر الشهيد وقبر الشهيد!.
ما أقرّه الكونغرس بالأمس هو ما طرحه كلينتون في برنامجه الانتخابي الماضي فلا مجال للثناء العربي إذن على موقفه "المغاير" للكونغرس.. أم أن العرب يُرضيهم ويروقهم أن تصبح القدس موضوعاً للمنافسة في الانتخابات الأمريكية تماماً كالإجهاض والشذوذ الجنسي؟
لم يكن بإمكان الكونغرس أن يلتهم القدس لو لم يقبل أهلها بتأجيلها.. نعم القدس تؤجَّل لكن القمع والقهر لصالح أمن العدو معجّل!
بالقرار الأمريكي تثبت رؤية الهلال الحل النهائي أن كل ما أُجّل سينفذ فيه الموقف الإسرائيلي طالما أن القدس أقدس المؤجلات خضعت لذلك، ولا حول ولا قول لعرب أمريكا و"إسرائيل" سوى التباكي على الشرعية الدولية، ومسيرة السلام ولا بواكي للقدس.
حديثوا العهد بالسياسة و"كار" الصحافة يقولون "إن على أمريكا الإسرائيلية أن تنحني قليلاً ريثما تمر عاصمة القدس.. والكرة الآن في ملعب العرب والمسلمين"! من أن تنطلق العاصفة (يا حسرة) والعرب والمسلمون صاروا هم الكرة، تتقاذفهم أمريكا على ملعب التاريخ كيفما تشاء!.
قالوا لنا منذ بداية الصراع إن "إسرائيل" تحرس منابع النفط لأمريكا واذا بالنفط اليوم يحرس "إسرائيل" ويستعد لدفع كامل تكلفة وجودها في قلب الأمة.
قالوا لنا إن أمريكا تدعم "إسرائيل" للمصلحة المتبادلة بينهما، وإذا بنا نسمع عن المصلحة المشتركة التي تجمعنا بالعدو التاريخي للأمة!..
لقد صمنا الدهر عن حلم وحرية، وأفطرنا على ليل وعبودية.. وفي عاصمة النهب العالمي وفي أروقة الأمم المتحدة كانت القدس كرة ثلج ذابت في حرارة مصافحتنا للغزاة وذابت معها خطى الفاروق، وسيف الناصر صلاح الدين، وقبّة عبد الملك بن مروان.. وأمام كاميرات اللصوص صار دمنا ماء لفطير صهيون.
قال له صاحبه وهو يتابع ردود فعل العرب والمسلمين على قرار الكونغرس: كم مرّة يجب أن نسقط في امتحان الكرامة؟ قالوا لنا إن القدس هي ساعة الصفر، لكننا الآن دونه بكثير في موازين الأمم.. وهل بقي من الخيانة شيء حتى يرتكبه العرب بعد القدس؟
ردّ وكله حزن وأسى: بعد القدس الخيانة ترتكب العرب!
*محمد الفاتح: الاسم الحركي للراحل الكبير الدكتور رمضان شلح