بقدر ما كان رحيل الأمين العام الثاني، والسابق، لحركة الجهاد الإسلامي رمضان شلّح، هادئاً، دونما صخب، كانت حياته مليئة بالمنعطفات الحادة، وبطروحات تحرير فلسطين، دونما التنازل عن شبر واحد فيها.
كان لدى شلّح، المولود في الشجاعية في غزة عام 1958، طموحات عدة فيما يتعلق بالتحصيل الأكاديمي؛ إذ لم يرضَ الوقوف عند الحدود الجغرافية الفلسطينية ولا حتى العربية، بعد أن درسَ الاقتصاد في جامعة الزقازيق في مصر؛ إذ انطلقَ منها نحو بريطانيا، لينال درجة الدكتوراه في الاقتصاد في مطلع التسعينيات.
رغم الانخراط في السلك الأكاديمي في غزة، ثم مصر، فبريطانيا، فأمريكا، فإنّ عين شلّح كانت على فلسطين المحتلة، لتنبثق الشرارة عند لقائه بالأمين العام الأول والمؤسس لحركة الجهاد الإسلامي، فتحي الشقاقي، الذي تمخّض عن رحيله اغتيالاً على يد الاحتلال الإسرائيلي تقلّد شلّح المنصب، من عام 1995 وحتى عام 2018، حين ترجّل عن رتبته بسبب مرض عضال، أودى بحياته مساء 6 حزيران (يونيو) 2020.
شلّح، الذي امتاز بشعبية لافتة ومرونة مشهود لها لدى الطرفين الفلسطينيَّين المتخاصمَين، فتح وحماس، لم يكن كذلك في عين الاحتلال الإسرائيلي ولا أمريكا؛ ذلك أنه وُضِعَ على قوائم الإرهابيين المطلوبين للمثول أمام السلطات؛ ليس لما كان يقدمه من طروحات تنادي بدحر الاحتلال الإسرائيلي عن فلسطين، دونما تنازل قيد أنملة، بل لضلوعه بعمليات فدائية ضد الاحتلال الإسرائيلي، وقد كانت عمليات موجعة لم يرضَ بأقل منها.
عملية حائط البراق ودور شلّح فيها
يستذكر الكاتب والباحث الفلسطيني، وعضو المجلس الثوري لحركة فتح والمجلس العسكري الأعلى للثورة الفلسطينية، سابقاً، معين الطاهر، في حديثه لـ "حفريات" عملية حائط البراق (باب المغاربة)، التي كان لشلّح بصمته فيها، وهي البصمة التي لم يذع صيتها بين الفلسطينيين كما يجب.
يقول: "اعتادت وحدات النخبة في الجيش الإسرائيلي إقامة احتفال أداء القسم للضباط وصفّ الضباط أمام حائط البراق في القدس الشريف، كان هذا هو الهدف الذي وضعه الشهداء نصب أعينهم، رغم صعوبته؛ فحتى المنتسبون إلى الجيش الصهيوني لا يعلمون توقيت الاحتفال إلّا قبل ثلاثة أيام من موعده، ولا يسمح لكل منهم إلّا بدعوة ثلاثة فقط من أقربائه، ويوم الاحتفال يتم إغلاق المنطقة بأسرها".
يكمل الطاهر: "حين التقى الشهيدان أبو حسن وحمدي بالإخوة عبد الناصر وطارق الحليسي وإبراهيم عليان في عمّان تبادر إلى أذهانهم هذا الهدف، إذ كان هؤلاء الأبطال يعرفون هذه المنطقة جيداً، ومنذ تلك اللحظة، بدأ الإعداد للعملية.
استُطلع الهدف عدة مرات، وتبيّن أنّ هذا الاحتفال يتوافق وقوعه في أحد أيام الأحد، وأنّ أفضل طريقة لمهاجمته هي عبر إلقاء قنابل يدوية من أحد أسوار القدس القريبة على منطقة الاحتفال، لذا؛ أُجري تدريب على التسلل إلى تلك المنطقة عدة مرات، وبقيت مشكلة تدريب المجموعة؛ فهي لا تمتلك أيّة خبرة عسكرية سابقة في إلقاء القنابل اليدوية".
يردف الطاهر بأنّه بعد الخروج من بيروت، وصعوبة وصول أبناء فلسطين المحتلة إليها، لم يكن لدى الشهداء سوى خيار واحد؛ وهو "تدريبهم في الصحراء الأردنية، على ما يحتمل ذلك من مخاطر كبيرة، وفيما يتعلق بمشكلة تزويدهم بالقنابل اليدوية، قررّ الشهداء، بالنظر إلى أهميّة الهدف، تجاوز ما هو معمول به من استخدام نقاط ميتة لتسليم السلاح المطلوب، وهي قاعدة تقتضي بأن يقوم أحد الأشخاص بوضع السلاح في مكان ما، ويرسم بشأنه مخططاً ليُسلّم لاحقاً إلى الجهة التي ستقوم باستلامه، غير أنّ هذه العملية التي تضمن سلامة الطرفين وعدم معرفة أيّ منهما للآخر قد تأخذ وقتاً، إضافةً إلى أنّ السلاح قد يضيع في بعض الأحيان، أو لا يمكن العثور عليه بسهولة؛ لذلك قررّ الشهداء أن تُسلّم القنابل مباشرةً من أحد الأبطال".
يكمل الطاهر: "أحد هؤلاء الأبطال سبق له، عام 1983، أن نفّذ عملية مشهورة في القدس، عُرفت باسم "عملية الباص رقم 18"، وهي عملية سقط فيها عشرات الصهاينة، دون أن تتمكن قوات الاحتلال من معرفة منفذيها، قام سمير أبو نعمة بتسليم القنابل اليدوية المخبأة في حقيبة غيتار موسيقي مباشرةً إلى أحد الإخوة، وقد تمكّنت قوات الاحتلال لاحقاً، بعد إلقاء القبض على المجموعة، من التعرّف إلى الأخ سمير أبو نعمة واعتقاله، ليصبح الآن عميد الأسرى المقدسيين، بعد رفض سلطات الاحتلال الإفراج عنه في صفقات التبادل المختلفة".
ثمّ إنّ الوضع المالي للأخوَين، أبي حسن وحمدي، "كان حرجاً للغاية، وقد باع أبو حسن سيارته لتمويل العملية".
يضيف الطاهر عن تلك العملية: الشهداء اتفقوا مع أبطال العملية أن يتصلوا هاتفياً في ساعة محددة من كل أسبوع إذا لمحوا علامات دالّة على مراسم لتخرّج الضباط، وأُعطيَ رقم كابينة هاتف في أحد ضواحي لندن، "واللافت للنظر في الموضوع أنّ الأخ رمضان شلّح، أمين عام حركة الجهاد الإسلامي، كان يقيم في لندن في تلك الفترة، وكان عليه مع زميل له أن يقطع أسبوعياً أكثر من 80 كيلومتراً ليصل إلى هذه الكابينة، ويبقى منتظراً الهاتف الموعود.
أخيراً؛ جاء الاتصال، في 15 تشرين الأول (أكتوبر) 1986، وأُعلم الدكتور رمضان وزميله بأنّ "عرس شقيقته سيكون هذه الليلة"، يقول الطاهر.
بعد ذلك، كما يردف الطاهر، أوقف أبطال العملية سيارتهم قريباً من المكان، ومشوا باتجاه الهدف حاملين حقيبة الغيتار، ونفّذوا العملية بكل دقة، وألقوا على التجمّع العسكري من ضباط وضباط صفّ لواء غفعاتي ما بحوزتهم من قنابل يدوية، وانسحبوا بسلام وسط حالة الفوضى التي سادت، مكملاً بأنّ العدو قد اعترفَ بإصابة نحو 80 جندياً بين قتيل وجريح، وتؤكد روايات مقدسية أنّ عدد القتلى من بينهم تجاوز العشرة.
يضيف الطاهر: وصل بيان إلى مكتب وكالة الصحافة الفرنسية في القدس يُعلن مسؤولية سرايا الجهاد عن العملية، "إلّا أنّ عدة جهات داخل فتح وفصائل فلسطينية أخرى تبنّتها أيضاً، بل إنّ إحدى الجهات قدّمت خرائط ومخططات تفصيلية مزورة عن العملية للأخ أبو عمّار، لتأكيد أنها ضالعة فيها، ولكن يشاء القدر أن يتعرّف أحد المارة إلى سيارة الإخوة، وأن يُلقى القبض عليهم في الشهر ذاته، ويعلن العدو بعد فترة جميع التفاصيل المتعلقة بها".
يقول الطاهر؛ إنّ مسؤولين أمريكيين قالوا بعد الاطلاع على تقارير خاصة بالعملية "إنّها تشكّل مؤشراً لمستوى جديد من العمليات الفدائية، وإنّ الذين خططوا للعملية ونفذوها ليسوا من الهواة، بل قد يكونون في الطليعة الأولى لعمليات من نوع جديد داخل إسرائيل"، مضيفاً أنّ أحد الخبراء الأمريكيين قد قال "إنّ هذا عمل فدائي كلاسيكي، وليس عملاً إرهابياً"، في حين قال أحد الدبلوماسيين الغربيين إنّ الحادثة ذكرته بـ "عمليات المقاومة الأوروبية ضدّ النازية التي صُنعت منها روايات سينمائية كبرى".
الواقعية تطغى
يرى الكاتب والمحلل زياد أحمد، أنّ خيوط الالتقاء بين حركتي الجهاد الإسلامي وجماعة الإخوان المسلمين واضحة على المستوى الفكري، لا سيما في بداية النشأة، كما يقول، مردفاً بأنّ كلّاً من الشيخين حسن البنا وسيد قطب يحظيان باحترام خاص في الحركة. "لكن هناك نقاط اختلاف كثيرة"، وبحسب الدكتور زياد أبو عمرو؛ فإنّ حركة الجهاد ترى نفسها نقيض الاتجاه الإصلاحي لجماعة الإخوان المسلمين".
ويقول أحمد إنّه "خلال الانتفاضة الفلسطينية الثانية، اتهم الاحتلال الإسرائيلي قائد حركة الجهاد، رمضان شلّح، بالمسؤولية المباشرة عن عدد كبير من عمليات الحركة ضدّ أهداف إسرائيلية، من خلال إعطائه أوامر مباشرة بتنفيذها، وهو الأمر الذي دفع الاحتلال إلى التعامل معه كقائد عسكري، إلى جانب دوره السياسي".
وبحسب المصادر الأمنية الإسرائيلية، يقول أحمد، فإنّ شلّح قد نجحَ في إعادة هيكلة وترتيب أوراق حركته بعد أن عانت من قسوة الضربة الكبرى التي تعرضت لها بعد اغتيال مؤسسها وزعيمها الشقاقي.
وتعتقد المصادر الإسرائيلية، بحسبه، أنّ حركة الجهاد "استطاعت استقطاب مئات العناصر والأنصار من الحركات الأخرى الموجودة في الساحة الفلسطينية، نظراً لخطّها الصلب؛ حيث يراها العديد من الفلسطينيين بمثابة التعبير عن معارضتهم وحنقهم على الواقع السياسي الحالي، وتعدّ الحركة بجناحها العسكري سرايا القدس من أكثر الحركات العسكرية تنظيماً في غزة".
ينوّه أحمد لكونه قد عُرِف عن الدكتور شلّح حرصه على وحدة الفصائل الفلسطينية والعمل على إنهاء الاقتسام بينها، لا سيما بين فصيلَي فتح وحماس، كما اشتهر بدفاعه الدائم عن قضية القدس، وقد قال في إحدى مقابلاته الصحفية: "القدس جزء من ديني وعقيدتي، ومن يقول لي تنازل عنها كأنما يقول لي احذف سورة الإسراء من القرآن الكريم".
ويقول زياد إن شلّح قد لعِبَ دوراً سياسياً بارزاً في "وضع الحركة على الخريطة السياسية العربية، وبناء علاقتها ببعض الأنظمة في المنطقة، مع الحفاظ على رفضها المبدئي الخوض في العمليّة السياسية، وإجراء الانتخابات في ظلّ اتفاقية أوسلو".
موقع : حفريات: رشا سلامة