فارس عز الدين
"إنها حربُ إبادةٍ مفروضة، ومن العار أن نخوضها متفرقين، فإما أن ننهض جميعًا أو يقتلونا فرادى" هذا الشعار الخالد هو جزء من التراث الفكري الخصب لمدرسة الجهاد الإسلامي، هو صرخة الوعي للأمين العام المؤسس الشهيد الدكتور الملهم فتحي الشقاقي التي توارثتها الأجيال المتعاقبة داخل هذه المدرسة الجهادية الأصيلة. فالحركة وجهازها العسكري "سرايا القدس" يمتلكان مخزونًا فكريًا ووعيًا متبصرًا وممارسةً دائمةً للفعل المقاوم بما يؤهلهما دومًا للحضور الفاعل في كل الميادين التي تُبقي جذوة الصراع مشتعلة مع العدو الصهيوني كضمان لاستمرار المعركة، كون ذلك يمنع العدو من الاستقرار ويحبط محاولاته لزعزعة المنطقة ويجعله يعيش حالة من فقدان الأمن الدائم.
في مثل هذا اليوم التاسع من مارس/ آذار 2012م، قبل ثماني سنوات، كانت "سرايا القدس" تأخذ بزمام المبادرة وتسجل محطة من محطات الجرح المتفتح وعيًا وعزةً وانتصارًا في معركة "بشائر الانتصار" التي جاءت ردًا على جريمة اغتيال الشيخ "زهير القيسي" الأمين العام للجان المقاومة الشعبية. معركة كرست فيها "السرايا" وحدة الدم الفلسطيني ووجوب ممارسة الفعل المقاوم لوقف سياسة الاغتيالات المتلاحقة آنذاك. حيث خاب ظن العدو حين توهم محدودية الرد، وأن المقاومة التي خرجت من عدوان 2008 الشرس لا زالت منهكة، وأن الحصار المفروض على قطاع غزة منذ حزيران 2007 سيدخل حسابات المقاومة لمقايضة متطلبات الحياة بالبندقية.
الرد السريع والمنظم الذي مارسته "السرايا" بعد ساعات قليلة من الاغتيال في "بشائر الانتصار" كان مفاجئًا للقريب والبعيد لعدة أسباب. فالتكتيك الجديد في تزامن دك المدن والمغتصبات الصهيونية بنفس الوقت والوتيرة لأربعة أيام متواصلة، ومن كل مناطق القطاع أربك العدو. وكذلك استخدام منظومة الراجمات المحمولة لإطلاق الرشقات عبر تكنولوجيا الكترونية جديدة لأول مرة في تاريخ الصراع ساهم في كبح العدو وقصر أيام المعركة بما عكس القدرة القتالية المتنامية للسرايا. وأيضًا كشفت "بشائر الانتصار" التطور النوعي في مدى الرمايات الصاروخية واستعمال أنواع مطورة وضرب العمق الصهيوني عبر إدخال المدن والمغتصبات الصهيونية بنطاق تجاوز 40 كلم من القطاع حيث أصبحت عسقلان وزيكيم ونيتيفوت وأوفوكيم وبئر السبع وأسدود وكريات ملاخي تحت جحيم صواريخ سرايا القدس، كما شمل القصف لأول مرة مهابط للطيران ومواقع عسكرية وأمنية حيث ألحق دمارًا كبيرًا بالمباني والممتلكات ومراكز المدن الصهيونية وسط اعتراف العدو بمقتل وإصابة عدد من مستوطنيه.
كانت "بشائر الانتصار" إشارة مهمة على تطور أداء المقاومة كمًا ونوعًا كرد موسع ومدروس بحنكة عالية، كما كانت بشرى لجمهور المقاومة بالتمهيد لضرب "تل الربيع" في معركة السماء الزرقاء بعد ثمانية أشهر عام 2012م ومعركة البنيان المرصوص عام 2014م. هذه الجولة أكدت الجهوزية العالية للسرايا قيادًة وجندًا وكشفت الترابط الوثيق بين المستوى النظري التكتيكي على صعيد التدريب والقدرة على مفاجأة العدو والمستوى التقني في تطوير المنظومة الصاروخية والأداء الميداني المتميز.
المعركة كانت برهاناً واضحًا بالقول وبالفعل أن الدم الفلسطيني موحد، فعندما يغتال العدو الأمين العام للجان، تستنفر "سرايا القدس" إمكاناتها البشرية والعسكرية للرد، وتمتزج دماء أربعة عشر شهيدًا من أبناء السرايا بدم الشيخ القيسي تأكيدًا منها أن العدو واحد والدم واحد ورفضًا لسياسية الاستفراد بأي فصيل مقاوم. ومن باب حفظ الحقوق فإن لقائد أركان المقاومة في فلسطين الشهيد بهاء أبو العطا "أبو سليم" البصمات الكبرى في إدارة وتوجيه هذه الجولة القتالية والإشراف عليها بما يعكس الدور القيادي الفاعل لقيادة السرايا في قيادة الصراع مع العدو.
"185 صاروخًا" كرست معادلة جديدة أن جرائم الاغتيال لن تمر دون عقاب يجعل الجبهة الداخلية في الكيان الصهيوني تتألم، أربعة أيام متواصلة من الرشقات الصاروخية وضعت حدًا لسياسة الاغتيالات آنذاك ولجمت العدو عن الاستمرار فيها. واستطاع الجهاد الإسلامي أن يرغم الاحتلال القبول بشروطه للتهدئة، كما أن تحذير "السرايا" من قصف "تل الربيع" بصواريخ "فجر5" أحدث خوفًا لدى قادة العدو الذي استجدى وقف الجولة القتالية عبر الوسيط المصري.
الصحافة الصهيونية التي تابعت المشهد، أقرت بقوة الجهاد الإسلامي المتصاعدة ووصفوها ب " الأكثر تطرفًا"، روني شاكيد وقف عند تحذير قصف تل الربيع كرسالة قوة هددت بها "السرايا"، وكذلك أثر المعركة في الجمهور الفلسطيني واصفًا إياها بالنصر. وفي ذات السياق انتقد "أوري مسغاف" بنتنياهو الذي وصف نفسه خبيرًا في "الإرهاب" في الثمانينات ليذكره أن ما جرى دب الرعب في "المدنيين"، كما ذكر نتنياهو بأن المعركة أدخلت مليون صهيوني في خط المواجهة، وكذلك إلغاء عيد المساخر، وتعطيل الدراسة، وقال أن "الإسرائيليين" هم أسرى الوضع الراهن ويستسلمون له في خضوع، كما أنه قال (إن أمة كاملة كانت عند انشائها مثالًا عالميًا للمبادرة تكتفي الآن بـ "احتواء الأحداث" أو "إدارة الصراع"، هذا التسليم رمز للهزيمة) هذه مقولة هامة يجب أن تبقى ماثلًة في أذهاننا كدلالة على مدى الهشاشة والضعف الذي يعانيه العدو بالتقادم. كما أن قائد فرقة غزة السابق "العميد شموئيل زكاي" استهزأ بمنظومة القبة الحديدية واعتبرها وهمًا خطيرًا.
إن المعركة الأخيرة "بأس الصادقين" وما سبقها في "صيحة الفجر" لهما نفس المدلول الجهادي وهو الحضور المستمر واليقظة التامة، وأن "سرايا القدس" تعتبر حالة المشاغلة والاستمرار في الاشتباك هو بعينه جزء من حالة الإعداد والتجهيز والاستعداد للقادم، فعشرات السنوات أثبتت أن نظرية التربية والإعداد مع المواجهة أنجع الطرق لإعداد المقاتل روحيًا ونفسيًا وعسكريًا ومراكمة القوة واستخلاص الدروس والعبر لقادم الجولات وأيضًا حالة ضمان لحالة التعبئة لدى الحاضنة الشعبية للمقاومة. إن حالة الاشتباك المستمر تتطلب وحدتنا الدائمة في ساحة الفعل الجهادي كأعظم إنجاز يمكن أن نحافظ عليه ونراكم عليه قوتنا، كما أن مجاهدينا يؤكدون كل جولة وكل يوم على إمكانية كسر العدو واندحار المشروع الصهيوني، إن ذلك كله مبعث أمل للمستضعفين في فلسطين كمركز للصراع الكوني أن النصر قاب قوسين أو أدنى.