| سعاده مصطفى أرشيّد _
في حين أعلن بنيامين نتنياهو عن تراجعه عن وعده لجمهوره من غلاة أنصاره من مستوطنين ومتطرفين بضمّ مناطق المستوطنات الكبرى والأغوار وشمال البحر الميت المعروفة بـ»قاع العالم»، أو مصيدة الدبابات وفق العقيدة العسكرية (الإسرائيليّة)، فإنّ بعض الآراء ذهبت للقول إنّ ذلك لم يكن له أن يكون إلا نتيجة للموقف الصلب والعنيد والشجاع لقيادة السلطة الفلسطينية الرافض لصفقة ترامب ولموقف الشعب الفلسطيني الداعم لقيادته والملتفّ حولها. ويضيف بعض من أولئك إلى ما تقدّم الموقف العربي الذي عبّر عنه لقاء وزراء الخارجية العرب في القاهرة عقب إعلان الرئيس الأميركي عن صفقته. ولكن الحقيقة تقول أشياء أخرى مختلفة… فـ بنيامين نتنياهو لم يتراجع عن قراره وإنما أجّل الإعلان عنه وإشهاره، فقد قام بالفعل وعلى أرض الواقع بضمّ الأغوار وشمال البحر الميت، وذلك قبل قرابة الشهرين ومنذ الإعلان عن إنشاء مجموعة من المحميّات الطبيعيّة على أراضي الضفة الغربية ومعظمها في مناطق الأغوار، وقد تمّ إبلاغ السكان الفلسطينيين بقرار حظر دخولهم إلى مناطق جديدة، وتمّت معاقبة مَن خالف منهم وكذلك مصادرة جراراتهم الزراعية، ويُشاع أنه سيتمّ نقل سجلات الأراضي الخاصة بالمناطق المنوي ضمّها (والتي تمّ ضمّها فعلاً) من دوائر الإدارة المدنية إلى دائرة أراضي «إسرائيل». والحقيقة تقول إنّ تأجيل الإعلان عن عمليه الضمّ قد أتى بناء على نصائح وطلبات من أصدقاء «إسرائيل» في البيت الأبيض والإدارة الأميركية، وذلك لحين استكمال اللجان الإسرا– أميركية من عملية رسم الخرائط المتعلقة بالضمّ، وبالطبع لن يشارك في هذه اللجان أيّ فلسطيني. فالأميركي هو الطرف المقابل للطرف (الإسرائيلي) وهو من سيناقش حول تقديم هذا الخط هنا أو إرجاعه إلى هناك، يُضاف إلى ذلك أنّ الأميركان يرون أنّ تأجيل الإعلان مهمّ لحين بدء الانخراط العلني والصريح لبعض العرب في هذا المشروع الصفقة.
تقول الحقيقة أيضاً إنّ لقاء الرئيس الفلسطيني محمود عباس ونظيره المصري أثناء زيارة الأول للقاهرة للخطابة في وزراء الخارجية العرب اتسم بالصراحة من الرئيس المصري الذي أبلغ ضيفه بلسان عربي مبين أنّ الموقف المصري لا يستطيع معارضه المشروع (الصفقة) الأميركي، أما ما أوردته وكالة الأنباء الفلسطينية «وفا» عن اللقاء فكان نموذجاً للنسخ المكرّرة في مثل هذه الحالة من نوع أكد الرئيس الفلسطيني على رفضه صفقة ترامب، وأكد الرئيس المصري موقف بلاده الداعم لفلسطين وعلى حلّ الدولتين… واستكمالاً لصورة الموقف العربي فقد أتت لقاءات ولي العهد السعودي مع زعماء الجاليات اليهودية في الولايات المتحدة لتقطع قول كلّ خطيب، فحسب القناة العبرية العاشرة أنّ الأمير محمد بن سلمان أكد لضيوفه أنّ مسألة فلسطين لم تعد على جدول أعمال المملكة السعودية وأن ما يشغل المملكة الآن هو صراعها مع إيران ومع تمدّد إيران الإقليمي، وأنّ الوقت قد حان ليقبل الفلسطينيون العودة إلى مائدة التفاوض أو فليصمتوا، فهم مَن أضاع الفرصة تلو الفرصة من أربعة عقود، ولكن بلاده تفضل حصول شيء من التقدّم باتجاه اتفاق «إسرائيلي» – فلسطيني قبل الدفع العلني للعلاقات العربية مع دولة الاحتلال. هذه الأقوال التي نسبتها القناة العبرية العاشرة لولي العهد السعودي، والتي لم يتمّ نفيها، أسعدت ثم أدهشت الضيوف (حسب القناة العبريّة) لجرأتها وصراحتها سواء في حدّة انتقادها للفلسطيني أو في تأييدها لـ «إسرائيل».
كما تقول الحقيقة أيضاً إنّ الواقع الفلسطيني منهك ومربك وفي حالة انعدام وزن، ففي حين انصبّت انتقادات رجالات السلطة الفلسطينية على رأس رئيس المجلس الانتقالي السوداني عبدالفتاح البرهان بسبب لقائه مع بنيامين نتنياهو في العاصمة الأوغندية، فالسلطة الفلسطينية ترى في هذا الموقف خروجاً على الإجماع العربي وطعنة في الظهر الفلسطيني، ثم ترسل السلطة وفداً باسم «لجنة التواصل مع المجتمع الإسرائيلي» المنبثقة عن حزب السلطة الحاكم والتي يرأسها عضو في لجنة فتح المركزية يضمّ وزراء ونواباً سابقين وأعضاء مجلس ثوري للقاء شخصيات «إسرائيلية» من غير محبي السلام، ثم يقوم وفد «إسرائيلي» من النوع ذاته بزيارة رام الله ويحلّ ضيفاً على السلطة الفلسطينية ويجتمع مع مسؤولين فلسطينيين كبار وأحدهم هو قاضي قضاة فلسطين (أعلى سلطة قضائية شرعية) ولا ترى في هذا السلوك تناقضاً مع موقفها من البرهان السوداني أو طعنة في ظهر نفسها.
كما تضيف الحقيقة أنّ الأمور تسير قدماً باتجاه تنفيذ صفقة ترامب وأن لا شيء جدياً يتمّ فعله لعرقلتها لا فلسطينياً ولا عربياً، وما يُقال ويُعلن عن إسقاطها وإفشالها ليس أكثر من مزاعم فرزدقية.
إنّ هذا المشروع سواء نفّذ بحذافيره أم عرقل في بعض جوانبه لن يكون نهاية المطاف ولا يعني نهاية كلّ شيء. فلا يزال الصراع مفتوحاً وطويلاً، ولكن أشياء أخرى يجب أن تنتهي من قاموسنا السياسي وعلى رأسها أسلوب العمل الفلسطيني الذي تبنّى خياراً أوحد ألا وهو خيار التفاوض، وعند كلّ فشل لهذا الخيار يزداد عناد أصحابه ويذهبون لمزيد من التفاوض ثم التفاوض ثم التفاوض.