Menu
فلسطين - غزة °-18 °-18
تردد القناة 10873 v
بنر أعلى الأخبار

أوهام الاستخفاف بصفقة ترامب

قناة فلسطين اليوم _ وكالات

| عبدالله السناوي 

لم تكن هناك أية مفاجآت في خطة الرئيس الأميركي دونالد ترامب، المعروفة إعلامياً بـ«صفقة القرن»، عند إعلانها رسمياً تحت أضواء الكاميرات. كلّ ما أفصح عنه هو نفسه ما تسرّب على مدى أشهر طويلة في الصحافة الإسرائيلية والأميركية، كبالونات اختبار لمدى جاهزية الفلسطينيين لتقبل ما قد يُطرح عليهم عند المذبح الأخير.

بلغة المسرح، بدت الأجواء الاحتفالية في البيت الأبيض أقرب إلى «مونودراما» هزلية، ممثل واحد يسرد الأحداث من وجهة نظره، يمدح نفسه باعتباره صانعاً للتاريخ والسلام، ويتلقّى تصفيقاً متتالياً من الشخصيات التي حشدت في قاعة الاحتفال وتتبنّى المواقف نفسها. كان بجواره على منصة الاحتفال رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، كلاهما كال المديح للآخر، فترامب صنع لإسرائيل ما لم يصنعه رئيس آخر، ونتنياهو رجل سلام خطا خطوة جبّارة بالموافقة على صفقة تتبنّى بالكامل وجهة نظر اليمين الإسرائيلي الذي يمثله!

انتحر المنطق في احتفالية البيت الأبيض، وجرى الاستخفاف بأيّة حقوق فلسطينية وعربية إلى حدود غير مسبوقة. لم يكن هناك سلامٌ ولا خطة سلام ولا أية صلة بأي سلام منصوص عليه في القوانين والمرجعيات الدولية، ولا كان هناك شريك فلسطيني، ولا أيّ اعتبار للطرف الآخر في الصفقة المفترضة. كان الغياب الفلسطيني حكماً مسبقاً بالإعدام على «صفقة القرن».

في ذلك الحفل بدا الرئيس الأميركي، كما لو أنه في محفل انتخابي، أراد أن يُضفي على نفسه صفة «الرئيس القوي» القادر على اقتحام الأزمات الشائكة، رغم أزمته الداخلية التي استدعت إجراءات عزله على خلفية اتّهامه باستخدام منصبه لمقتضى مصالح شخصية وانتخابية. ألقت معركة عزل ترامب بظلالها على احتفالية البيت الأبيض، ليس لأنه سوف يُعزل فعلاً، فهذا مستبعد بالنظر إلى الأغلبية الجمهورية في مجلس الشيوخ، بقدر مدى تأثير المحاكمة على فرصه الانتخابية لتجديد ولايته في الخريف المقبل.

لأهداف انتخابية، جرى استدعاء «صفقة القرن» إلى العلن، رغم عمق المعارضة الفلسطينية الجماعية للانخراط فيها، واعتبار القبول بها خيانة وطنية، وفق تعبير الرئيس الفلسطيني محمود عباس. حاول ترامب، باغتيال الجنرال الإيراني قاسم سليماني، تأكيد صورة «الرئيس القوي»، غير أنّ التداعيات أفسدتها وجلبت اعتراضات عليها من داخل حزبه نفسه، لكنّه استخدمها مجدّداً في سياق استعراض خدماته لإسرائيل، التي تضمّنت نقل السفارة الأميركية إلى القدس وإلغاء الاتفاق النووي الإيراني والاعتراف بالسيادة الإسرائيلية على هضبة الجولان السوري المحتل.

بالنسبة إلى رئيس مأزوم، يخوض معارك مفتوحة في الداخل، بدت هناك حاجة ملحّة لشيء ما دراماتيكي في معادلات الخارج، يُضفي عليه صفات القوة والقدرة على التصرّف واتّخاذ القرارات الصعبة وادّعاء «صناعة السلام»! لم تكن هناك غير القضية الفلسطينية بطناً رخواً يضرب عليه من دون توقّع ردات فعل تضرّ بالمصالح الأميركية في العالم العربي. كان ذلك استخفافاً يتجاوز كل ما جرى قبله من تنكيل بأية حقوق فلسطينية أو عربية. استخفاف إلى حدّ أنه يكاد لا يرى أن هناك بشراً يستحقون الحياة في فلسطين، وأن هناك عالماً عربياً خاض حروباً متعاقبة لاكتساب حقّه في أوطان مستقلّة، من بينها حرب 1948، التي قال ترامب إنه كان يتوجّب على العرب أن يعترفوا بإسرائيل الوليدة لا أن يهاجموها!

خطة ترامب تقع في 80 صفحة، موسّعة وتفصيلية، الاطلاع التفصيلي عليها ربما يشير إلى الحجم المروّع لذلك الاستخفاف. في ما يتعلق بما يحصده الإسرائيليون، فهو حاسم ومحدّد وقاطع وإنفاذه عاجل، فالقدس غير المقسّمة عاصمة أبدية لإِسرائيل، ومستوطنات الضفة الغربية تُضمّ للدولة العبرية، بينما يوضع غور الأردن تحت سيادتها.. وهكذا. وفي ما يتعلّق بما قد يحصل عليه الفلسطينيون، فالكلام عائم ومشروط بتنازلات محدّدة، مثل نزع سلاح غزة والاعتراف بيهودية الدولة الإسرائيلية وإنفاذه ممرحلاً على أربع سنوات، والوعود الاقتصادية التي تدفع غالبية استحقاقاتها الدول الخليجية معلّقة على تنفيذ الإملاءات.

الخطة الإسرائيلية، التي أعلنها الرئيس الأميركي ووضع عليها توقيعه، تستهدف حكماً ذاتياً فلسطينياً محدوداً يطلق عليه اسم دولة في حدود 70% من الضفة الغربية، يرتبط بغزة في ما يشبه الكانتونات الممزقة، بلا اتّصال جغرافي ولا سلاح ولا سيادة ولا قرار أمني. إنه سلام الإذعان والقوة وتجريد الفلسطينيين من أية حقوق منصوص عليها في القوانين والقرارات الدولية، ومن بينها حق العودة. وفق خطة ترامب، فالدولة الفلسطينية افتراضية، مسخ دولة.

كل شيء لإسرائيل ولا شيء للفلسطينيين. من مفارقات ما حدث في البيت الأبيض، أن رجلاً بمواصفات نتنياهو، يتحدث عن «السلام» وهو يقصد «الاستسلام»، وعن «الطريق الواقعي لسلام مستدام»، وهو يقصد الرؤية الصهيونية بكامل حذافيرها، وعن «اللحظة التاريخية» وهو يقصد «تصفية القضية الفلسطينية». كان ذلك انتهاكاً مفرطاً لحرمة الألفاظ والمعاني. مساء اليوم نفسه، كشف نتنياهو عن توجّهه لاستصدار تشريع جديد، خلال ساعات، يفرض السيادة الإسرائيلية على غور الأردن ويضمّ الكتلة الاستيطانية الأكبر في الضفة الغربية، من دون انتظارٍ لتفاوض تحدث عنه ترامب في خطابه الاستعراضي. كان إعلان الصفقة، قبيل الانتخابات الإسرائيلية بأسابيع قليلة، داعياً للتساؤل داخل إسرائيل نفسها عن مغزى التوقيت، فـ«السماء لن تنطبق على الأرض»، إذا ما تأجّل إعلانها إلى ما بعد الانتخابات في آذار/ مارس المقبل، بحسب تعبير أفيغدور ليبرمان، وزير الخارجية والدفاع سابقاً. بدا ذلك دعماً سياسياً لنتنياهو، المهدَّد بالسجن على خلفية اتّهامه بقضايا احتيال وفساد.

في احتفالية واشنطن، وقف نتنياهو تحت الكاميرات بجوار ترامب، والسعادة تغمر وجهه، كأنه تلقى طوق إنقاذ قبل الغرق في بحر الظلمات. كانت دعوة زعيم لائحة «أزرق أبيض» بيني غانتس، المنافس الرئيسي للائحة «الليكود» في الانتخابات الإسرائيلية إلى البيت الأبيض، نوعاً من التغطية على ذلك الدعم الانتخابي لنتنياهو. اجتمع بهما ترامب بالتعاقب، لكنّ الحظوة نالها نتنياهو وحده. لم يكن هناك فارقٌ يعتدّ به بين المتنافسين الإسرائيليين، فكليهما يؤيد الصفقة ويتحمّس لها ويرى أنه الأجدر بإنفاذها على الأرض.

في التقدير النسبي لدوافع إعلان الخطة الآن، فإنّ اعتبارات ترامب الانتخابية تأتي أولاً، تليها اعتبارات نتنياهو حليفه الأوثق، من دون وضع الفلسطينيين والعرب في أي اعتبار.

هناك إجماع فلسطيني على رفض صفقة ترامب، التي وُصفت بـ«صفعة القرن» و«عار القرن» و«احتيال القرن»، وتردّدت بصورة غير مسبوقة دعوات التحلّل من اتفاقية «أوسلو»، التي أُنشئت على أساسها السلطة الفلسطينية. فكرة التحلّل من «أوسلو» ليست جديدة، طُرحت على الدوام في كواليس السياسة الفلسطينية. لوّح محمود عباس بالتخلّي عن «أوسلو»، في خطاب أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، لكن بدا أن هناك من يعارض هذه الخطوة داخل حركة «فتح»، التي يخشى بعض أقطابها أن يعقب حلّ السلطة الفلسطينية انقلاب داخلي إسرائيلي، حتى تستمر بوجوه جديدة. يفسّر ذلك ما دعا إليه عباس في الخطاب، الذي ألقاه في مساء احتفالية واشنطن، إلى البدء في اتخاذ إجراءات تغيير الدور الوظيفي للسلطة الفلسطينية. المقصود هنا، التوقّف عن التنسيق الأمني والامتناع عن لعب أي دور وظيفي يكرّس الاحتلال ويخدم أغراضه بأقلّ التكاليف الإسرائيلية.

في أية مراجعة للأدبيات السياسية الفلسطينية والعربية، بعد اتفاقية «أوسلو»، فقد كان ذلك الدور جوهر الانتقادات التي وُجهت إليها، عندما يتبنّاها الرجل الذي يوصف بـ«عراب أوسلو»، فالمعنى أنه لم يتبقَّ منها سوى خرق سياسية ينبغي التخلّص منها في أقرب سلّة مهملات.

هذا هو الرد الوحيد على صفقة ترامب، مشفوعاً بإنهاء الانقسام الفلسطيني، وإعادة بناء «منظمة التحرير الفلسطينية»، والعودة مجدداً إلى انتفاضات الغضب داخل الأراضي المحتلة.