د. صبحي غندور
هنيئاً لك يا نتنياهو من جديد، واعذر وسائل الإعلام إذا كان اسمك لا يظهر فيها كثيراً الآن في خضمّ الأخبار والتحليلات عن قرار ترامب باغتيال الجنرال الإيراني قاسم سليماني والقائد العسكري العراقي “أبو مهدي المهندس” في مطار العاصمة العراقية بغداد.
حتماً أنت تريد ذلك يا نتنياهو، بأن تكون خلف الستار لا في الواجهة الإعلامية لما قد يحدث من مواجهاتٍ عسكرية بين الولايات المتحدة وإيران، ليس من موقع التواضع الشخصي عندك طبعاً، بل من حرصك على تنفيذ أجندة خطّطتَ لها أنت مع مجموعة من “المحافظين الجدد” في واشنطن منذ العام 1996، وعملت على تنفيذها معهم حينما تمكّنوا من حكم الولايات المتحدة في العام 2001 و”استمعوا وأطاعوا” إلى “أفكارك” عن كيفية توظيف ما حدث من أعمال إرهابية في شهر سبتمبر من ذلك العام، بدءاً بمساواة المقاومة ضدّ الاحتلال الإسرائيلي بجماعات الإرهاب، مروراً بتأليب الرأي العام الغربي والعالمي ضدّ العرب والمسلمين ووصمهم بالشعوب الإرهابية، ووصولاً إلى غزو العراق واحتلاله في العام 2003 تحت حجج وذرائع كاذبة.
كانت أمنياتك يا نتنياهو أن تخوض الولايات المتحدة معارك إسرائيل بالنيابة عنها وأن تزداد الحاجة للدور الإسرائيلي كلّما ازداد السخط الشعبي العربي على السياسة الأميركية، خاصّةً بعد سقوط “المعسكر الشيوعي” في مطلع حقبة التسعينات من القرن الماضي، ووجود “الأصيل العسكري” الأميركي في عموم المنطقة، وضعف دور “الوكيل الإسرائيلي”!. ولقد سعيتَ، بالتعاون مع “أصدقائك” المؤثّرين على صُنّاع القرار الأميركي، إلى إضعاف وتدمير مقوّمات الأوطان العربية الكبرى في المشرق، كالعراق وسوريا، كما سعى من سبقوك في إسرائيل إلى عزل القوة العربية المصرية عن الصراع معها بعد معاهدات”كمب ديفيد”، إضافةً إلى حروبك وحروب سلفك شارون على لبنان وفلسطين وقوى المقاومة فيهما.
ولقد استطعتَ يا نتنياهو النجاح في بعض المواقع هنا وهناك، لكنّك فشلت في القضاء على حالات المقاومة في فلسطين ولبنان وسوريا والعراق، وصمدتْ سوريا والعراق أمام كل محاولات تحطيم وحدة الأرض والشعب في البلدين، فانتهت دولة “داعش” التي راهنتَ عليها، ولم يسقط المشرق العربي أو يتحوّل إلى دويلاتٍ طائفية ومذهبية، كما كان “الحلم الصهيوني” وما يزال.
ولم يجانبك “الحظ الأميركي” يا نتنياهو حينما فزت برئاسة الحكومة الإسرائيلية في العام 2009 حيث فاز آنذاك أيضاً باراك أوباما بالرئاسة الأميركية، ورفض طيلة فترتيْ إدارته التوافق معك على تهميش الملفّ الفلسطيني، وعلى إشعال الصراع مع إيران وجعله الأولوية في المنطقة على حساب القضية الفلسطينية، واستثمار نتائجه السياسية بإحداث شروخ كبيرة وسط العالمين الإسلامي والعربي، وتأجيج المشاعر الطائفية والمذهبية وتبرير مفهوم “الدولة الدينية اليهودية” الذي تُطالب العالمَ بالاعتراف به.
ثمّ جاء دونالد ترامب ليحقّق كلَّ أمانيك في الملفّين الفلسطيني والإيراني، فاعترف بالقدس كعاصمة لإسرائيل واعترف بضمّك لمرتفعات الجولان السورية، وأوقف كلّ أشكال الدعم للفلسطينيين وللمؤسّسات الدولية التي ترعى شؤون اللاجئين الفلسطينيين حتّى يسقط أيضاً حقّ العودة لهم، وقام وزير خارجيته بومبيو بصبغ “الشرعية الأميركية” على المستوطنات اليهودية في الضفّة والقدس، وبتناقضٍ كامل مع ما هو في قرارات مجلس الأمن الدولي وسيرة الإدارات الأميركية السابقة.
أيضاً، تبنّى ترامب أجندتك كلّها في كيفية التعامل مع الملفّ الإيراني، فانسحب من الاتّفاقية الدولية معها بشأن ملفّها النووي، وتناقض مع حلفاء وشركاء أميركا الأوروبيين الذين رفضوا التخلّي عن هذه الاتّفاقية، ورفضوا العقوبات القاسية التي قرّرها ترامب ضدّ إيران، كما اختلفوا معه في قراراته حول القضية الفلسطينية. فقط أنت يا نتنياهو الذي يشيد (ب) ويُعظّم ما يفعله ترامب طيلة السنوات الماضية من سياساتٍ خارجية تضرّ بالمصالح الأميركية، وتخدم فقط مصالح حكومتك الإسرائيلية.
فهل تريدنا أن نصدّق يا نتنياهو بأنّ ترامب هو من قرّر اغتيال الجنرال قاسم سليماني في مطار بغداد؟!. ألم يكن ذلك الاغتيال هو أحد أمانيك التي يعمل ترامب على تنفيذها، والتي يُراد منها تحقيق ما فشل في السنوات الماضية من توريط الولايات المتحدة ودول المنطقة في حربٍ مدمّرة تنعكس أيضاً في حروبٍ بينية داخل المنطقة والعالم الإسلامي؟!.
وهل يُصدّق العالم بأنّ اغتيال قاسم سليماني كان لدرء أخطار على الولايات المتّحدة بينما الاغتيال نفسه هو الذي يُسبّب الأخطار كلّها الآن؟! وهل يُصدّق العالم أيضاً أنّ الاغتيال كان ردّاً على مقتل متعاقدٍ (وليس جندي) أميركي في العراق؟! بينما تواصل حركة “طالبان” قتل الجنود الأميركيين لعقدين من الزمن وترامب يتفاوض معها لتوقيع اتّفاق “سلام” في أفغانستان، وكان سيستضيف قادتها في “كمب ديفيد” في سبتمبر الماضي لولا اعتراض بعض المسؤولين الأميركيين!.
ولو صحّت المعلومات التي تعلنها إدارة ترامب الآن عن تداعيات الأزمة مع إيران، فإنّ الردّ الأميركي على “مقتل المتعاقد” كان يجب أن يمرّ من خلال الحكومة العراقية، على اعتبار أنّ القوات العراقية هي المسؤولة عن الأمن في كامل الأراضي العراقية، وليس من خلال استباحة السيادة الوطنية العراقية وقصف موكب مدني بمطار بغداد، فيه الجنرال سليماني الذي كان يتمّ التعامل معه عراقياً كمستشار أمني للحكومة العراقية، تماماً كحال العديد من الضبّاط الأميركيين المتواجدين في العراق. ثمّ إنّ الاغتيال حدث أيضاً بعد قصف أميركي لمواقع عراقية وسقوط 25 قتيلاً وأكثر من 50 جريحاً. فأيُّ “احترام” يتحدّث عنه ترامب إذا لم تحترم إدارته حكومة وشعب وأرض العراق؟!.
كان أولى بالرئيس ترامب أن يعتذر من الشعب العراقي لا أن يهدّده بعقوباتٍ لم يشهدها من قبل، وأن يعتذر أيضاً عن ممارسات احتلال العراق في العام 2003 وما بعده، وعن مسؤولية سقوط مئات الألوف من القتلى المدنيين العراقيين وتدمير مؤسّسات الدولة العراقية، وأن يقرّر ترامب دفع تعويضاتٍ مالية لهذه الخسائر البشرية والمادية التي لحقت بالعراق في ظلّ إدارة “جمهورية” كالتي تحكم أميركا الآن. فتهديدات ترامب للعراق تعني أنه يتعامل مع الوجود العسكري الأميركي فيه بأنّه قوة احتلال لا قوّة مساندة للدفاع عن أمن الوطن العراقي وسيادته ووحدته.
غريبٌ أمر السياسة الخارجية الأميركية، فالولايات المتّحدة قامت أولاً على التحرّر من الهيمنة البريطانية واستخدم “الجنرال جورج واشنطن” ورفاقه المقاومة المسلّحة لإخراج جنود العرش البريطاني من الأراضي الأميركية، أفلا يحقّ لشعوب العالم الأخرى التمثّل بالمقاومة الأميركية والسعي لنيل الحرّية والاستقلال من كافّة أشكال الهيمنة والاحتلال؟!.
ترامب منذ وصوله إلى الرئاسة الأميركية يُشكّك بأجهزة المخابرات الأميركية، فكيف اقتنع الآن بصحّة ما قيل له عن خطط كان يهيء لها الجنرال سليماني؟! وإذا كان سليماني مسؤولاً فعلاً عن قتل أميركيين إبّان فترة الاحتلال الأميركي للعراق، فهل قامت الولايات المتحدة باغتيال قادة سياسيين وعسكريين في فيتنام بعد الانسحاب منها؟ وهل ستفعل ذلك بعد الانسحاب من أفغانستان؟!.
لفهْم ما يحدث الآن بين واشنطن وطهران وخلفيات قرارات ترامب، فتّشوا عن نتنياهو وأجندته!.