بقلم د. وليد القططي
جاء في الصحيحين أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- استعمل عاملاً، فجاءَه العاملُ حين فرغ من عملهِ، فقال: يا رسول الله، هذا لكم وهذا أُهديَ لي، فقال له: أفلا قعدت في بيت أبيكَ وأمكَ، فنظرتَ أيُهدي لك أم لا؟... ثم قال: " ما بال العامل نستعملهُ، فيأتينا فيقول: هذا من عملكم ، وهذا أهديَ لي، أفلا قعدَ في بيت أبيه وأمه فنظر: هل يُهدي له أم لا؟... . أليس هذا الذي استنكره وحرّمه الرسول - صلى الله عليه وسلم- على عامله أي موظف الدولة بمفهومها الحديث هو عين الفساد وجوهره كما عرفته المنظمات الدولية بأنه إساءة استخدام السلطة العامة (الحكومية) لأهداف غير مشروعة ولتحقيق مكاسب شخصية، وهذا ما أصاب أنظمة الحكم العربية المعاصرة، وما مارسته النخب الحاكمة في الدول العربية في مرحلة ما بعد الاستعمار المباشر، وهو نفس السبب الذي ثارت ضده شعوب الأمة العربية في ثورات الربيع العربي المعاصرة، فكانت ثورات ضد الفساد بامتياز.
ثورات الشعوب العربية ضد حكامها المعروفة بثورات الربيع العربي في موجتها الأولى التي بدأتها تونس عام 2011، وموجتها الثانية التي طالت الجزائر والسودان والعراق ولبنان كان من أهم أسبابها فساد واستبداد أنظمة الحكم، وأهم أهدافها القضاء على الفساد والاستبداد الذي ميّز نخبها الحاكمة، والفساد في تلك الأنظمة أصبح هو الأصل وليس الاستثناء، وتقارير منظمة الشفافية العالمية تؤكد هذه الحقيقة على مدار السنوات السابقة ومنذ انشاء المنظمة، واخرها تقرير عام 2018 الذي يضع أكثر من نصف الدول العربية في مقدمة دول العالم الأكثر فساداً، وهي نفس الدول العربية التي طالتها ثورات الربيع العربي في موجتها الأولى والثانية، والقضاء على الفساد في الدول العربية في غاية الصعوبة قد لا يتحقق إلاّ بإزالة أنظمتها الحاكمة؛ ذلك بأن الفساد جزء من بُنيتها المرتبطة بالاستعمار والاستبداد والطائفية.
الفساد في الدول العربية مرتبط بالاستعمار ، فقد ساهم الاستعمار في ايجاد وتقديم نخب حاكمة مرتبطة به فكرياً وسياسياً واقتصادياً، وبعضها مرتبط عاطفياً بالاستعمار، مما جعلها منتمية فعلياً للاستعمار، وبالتالي منفصلة عن مجتمعها وشعبها وأمتها، وأفضل طريقة لإيجبار هذه النخبة الحاكمة واستمرار بقائها هو الفساد، فالفاسد لا يُمكن أن يكون وطنياً؟ بعد "أن ارتبطت مصالحه بالاستعمار، وهذا جزء من منظومة السيطرة على النخب الحاكمة ومن خلالها على البلاد المُحتلة بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، سواء كانت الجيوش الأجنبية موجودة على الأرض، أم كانت جيوش الطابور الخامس من أعوان الاستعمار هي الموجودة.
وهذا ما يُفسّر فساد النخب الحاكمة التي تركها الاستعمار خلفه بعد رحيله، كالعراق بعد انسحاب الجيش الأمريكي منها تاركاً طبقة حاكمة نهبت ثروات العراق وتكونت معادلة شاذة هي وجود دولة غنية بثرواتها الطبيعية يعيش فيها شعب فقير يفتقر الى الخدمات الأساسية كالكهرباء والماء. وربما المثال الأكثر غرابة هو نموذج فساد النخبة الحاكمة في السلطة الفلسطينية، كجزء من منظومة السيطرة الإسرائيلية على الضفة والقطاع، ووجود هذه النخبة وارتباط مصالحها بالاحتلال هو ما يُفسر عدم قدرتها على تحدي الاحتلال خوفاً من فقدان الامتيازات وهذا جوهر الفساد.
الفساد في الدول العربية مرتبط بالاستبداد في متلازمة واحدة، هي جزء من آلية الحكم، وممارسة السلطة، ومراكمة الثروة، وتوريث السلطة والثروة للأبناء، وتداولهما في نفس النخبة المسيطرة والطبقة الحاكمة. بل أن هذه الأنظمة الحاكمة انتقلت من مفهوم فساد الحكم إلى الحكم بالفساد، بمعنى أن فساد الحكم يُشير إلى خلل في الأداء الوظيفي وإساءة استخدام السلطة لنظام الحكم، يشمل مظاهر الرشوة، واستغلال النفوذ، والمحسوبية... وقد يكون هذا الاستثناء وليس الأصل بدرجات متفاوتة وحسب درجة فساد الحكم. بينما الحكم بالفساد هو الأصل في ممارسة السلطة كجزء من منظومة السيطرة على الحكم، وإدامة السيطرة، وتوريث السلطة والثروة للأبناء.
وهذا ما يحدث في الأنظمة العربية المستبدة الحاكمة، فيكون الفساد هو توأم الاستبداد الملتصق، بل ويكون (الاستبداد هو أصل كل فساد)، كما قال عبد الرحمن الكواكبي في كتابه ( طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد)؛ وفسر ذلك بأن الاستبداد لا يستمر إلا في بيئة سياسية فاسدة، والفساد يكبر في ظل حكم الاستبداد. وبذلك تصبح العلاقة بين الفساد والاستبداد طردية كلما زاد أحدهما زاد الآخر والعكس صحيح.
الفساد في الدول العربية أو بعضها مرتبط بالطائفية، سواء الطائفية المذهبية، أو الطائفية الحزبية، أو الطائفية الطبقية، وغيرها من أنواع الطائفية التي تُقيم نظامها السياسي على أساس التفرقة العنصرية - المذهبية والحزبية والطبقية وغيرها- وأهم سماتها عدم المساواة والعدالة بين المواطنين في الدولة الواحدة، وإقامة نظام سياسي على أساس طائفي أو حزبي أو طبقي أو نخبوي، فتُحتكر الوظائف أو بعضها لأبناء المذهب الواحد والحزب الواحد والطبقة الواحدة والنخبة الحاكمة، وفي أحسن الأحوال تُقسم المناصب والوظائف والموارد في الدولة على أساس المحاصصة السياسية والاقتصادية، فُتوزع المناصب في السلطة السياسية، وتُقسم الموارد الاقتصادية على فئات معينة على أساس مذهبي وحزبي وطبقي بعيدا عن الأسس السليمة القائمة على المساواة والعدالة وتكافئ الفرص والخبرة، والاجتهاد والانجاز والإتقان... وهذا النظام الطائفي بمختلف أنواعه المذهبية والحزبية والنخبوية هو اكبر رافد للفساد، واكبر مُعيق للإصلاح، وذلك بأن الفاسدين فيه محميون من مراكز القوة المذهبية أو الحزبية أو الطبقية المتنفذة في النظام الحاكم، وتُحول كل عمل ضد هؤلاء الفاسدين إلى تهمة استهداف الطائفة المذهبية والحزبية .
خُلاصة الأمر أن الثورة على الفساد لن تنجح إلا إذا عملت ضد منظومة الفساد بأكملها التي تغذيها أنظمة حكم مرتبطة بالاستعمار والاستبداد والطائفية. وهذا يعني التخلص من الاستعمار بكافة درجاته المباشرة وغير المباشرة ابتداء من الاحتلال العسكري المباشر وانتهاء برهن قرار نظام الحكم بأجندة خارجية. والتخُلص من الاستبداد أصل كل فساد، وأساس كل بلاء ومصدر كل خراب. والتُخلص من الطائفية بلونها المذهبي، أو الحزبي، أو الطبقي، أو النخبوي، وبدون ذلك العمل الثوري المتكامل لن تنجح الثورة في تحقيق طموحات الشعوب المقهورة، ولن تنجح معها كل مشاريع النهضة والتنمية والحياة الحُرة الكريمة، فالفساد سيأكل الأخضر واليابس من ثروات الشعوب المقهورة.