القرار الذي اتخذه الرئيس «الإسرائيلي» رؤوفين ريفلين بنقل ملف تشكيل الحكومة المتعثر إلى الكنيست (البرلمان) ليتولى رئيسه يولي أدلشتاين مع باقي أعضائه مهمة تشكيلها بعد فشل كل من بنيامين نتنياهو زعيم حزب الليكود وبيني جانتس زعيم حزب «أزرق- أبيض» في تشكيلها يُعد سابقة تاريخية هي الأولى من نوعها، لكن الأهم أن هذا الأمر يعد شهادة رسمية ليس فقط على العجز عن تشكيل الحكومة ضمن آلياتها التقليدية المتعارف عليها بأن يتولى زعيم التحالف الانتخابي الحاصل على العدد الأكبر من المقاعد داخل البرلمان مسؤولية تشكيلها ورئاستها، بل عجز النظام السياسي «الإسرائيلي» عن إدارة الحكم ووصوله إلى طريق مسدود. وما قاله الرئيس «الإسرائيلي» في رسالته إلى رئيس الكنيست بهذا الخصوص أكبر شاهد على ذلك.
يبدو المشهد أكثر قتامة إذا أخذنا في الاعتبار تزامن هذا العجز غير المسبوق من تحالف اليمين بزعامة حزب الليكود وتحالف يسار الوسط بزعامة حزب «أزرق - أبيض» عن تشكيل الحكومة مع صدور لائحة اتهام غير مسبوقة أيضاً لشخص رئيس الحكومة المنتهية ولايته والتي يمكن أن تقوده إلى السجن ليقضي بين جدرانه ما لا يقل عن 9 سنوات في حالة تأكيد المحكمة ما ورد من اتهامات أعلنها المستشار القضائي للحكومة أفيخاي مندلبليت (المدعي العام) تضمنت اتهامات بالرشوة والاحتيال والغش وخيانة الأمانة. المدعي العام لم يكتف بذلك لكنه أكد أن هذه الاتهامات جاءت بعد «دراسة معمقة لملفات التحقيق مع نتنياهو وعشرات الشهود»، واعتبر أن هذه الاتهامات «خطيرة ولم يسبق أن عرفتها «إسرائيل» في الماضي»، ولفت إلى أن الشرطة وقعت اتفاقيات «شاهد ملك» مع عدد من المقربين والمستشارين السابقين لنتنياهو ما يجعل الأدلة دامغة.
لم يتوقف الأمر عند هذا الحد بل إن بنيامين نتنياهو لم يأبه بخطورة ما انحدرت إليه ممارسة السياسة داخل الاحتلال فتحدى هذه الاتهامات وبدأ يخطط لإسقاطها عنه «سياسياً» من خلال التلاعب بمسار التطورات السياسية على النحو الذي يخطط له وذلك بعرقلة أي فرصة ممكنة لتشكيل الحكومة «الإسرائيلية» لفرض خيار واحد هو إجراء انتخابات عامة ثالثة أملاً في أن يحصل من خلالها على أغلبية يحقق بها هدفين، الأول أن يتولى تشكيل الحكومة الجديدة بعد هذه الانتخابات الثالثة المأمولة ويجدد لنفسه ولاية جديدة كرئيس للحكومة، ويدعم بذلك استمرار سيطرة تيار اليمين واليمين المتشدد الذي يحكم تل أبيب منذ عام 1977 وحتى الآن، باستثناءات محدودة، والثاني أن تمكنه الأغلبية التي سيحصل عليها في الانتخابات الثالثة التي يريدها من الحصول على «حصانة برلمانية» تمنع محاكمته، أما خياره الأخير للهروب من المحاكمة فهو «خيار الصفقة» أي التوصل إلى صفقة مع النيابة العامة «الإسرائيلية» تقضي بقبول النيابة مقايضة إغلاق ملف المحاكمة مقابل أن يعلن نتنياهو اعتزاله الحياة السياسية.
تلاعب يكشف إلى أي مدى وصل التردي الأخلاقي في إدارة الحكم داخل «إسرائيل» لا ينافسه غير تلك «الخيانات» التي يموج بها تكتل اليمين وبالتحديد داخل الليكود نفسه، حيث يسعى النائب جدعون ساعر، أكبر مناوئي نتنياهو داخل حزبه، إلى إجراء انتخابات تمهيدية داخل الليكود قبل الحادي عشر من ديسمبر/ كانون أول المقبل لاختيار رئيس جديد للحزب، في إجراء هدفه الإطاحة برئيسه نتنياهو، وهي خطوة إن حدثت، فإنها لن تؤدي فقط إلى إبعاد نتنياهو عن رئاسة الحزب، ومن ثم رئاسة أية حكومة مقبلة في حال إجراء انتخابات عامة جديدة وفوز الليكود بأغلبية المقاعد بل ستؤدي حتماً إلى تسليم نتنياهو إلى السجن.
الخيانة ليست فقط داخل الليكود بل هي موجودة أيضاً في الأحزاب اليمينية الأخرى ومنها حزب «اليمين الجديد» الذي يقوده كل من اييليتشاكيد وزيرة العدل السابقة ونفتالي بينيت وزير الحرب الجديد وزير التربية السابق. فقد قرر هذا الحزب خوض الانتخابات العامة المقبلة (في حال حدوثها) بشكل مستقل عن كتلة «يميناً» (إلى اليمين) التي تضم أحزاب اليمين القومي الديني التي سبق أن تحالف معها في الانتخابات السابقة.
هذا يعني أن اليمين «الإسرائيلي» الذي يحكم «إسرائيل» منذ الإطاحة عام 1977 بحكم حزب «العمل» مؤسس كيان الاحتلال، أخذ يعيش مرحلة العجز والقصور التي عاشها حزب العمل وبلغت ذروتها عقب حرب أكتوبر/ تشرين أول 1973، وفي ذات الوقت فإن اليسار «الإسرائيلي» هو الآخر مأزوم وأضحى حزب العمل الذي هو رمز هذا التيار خارج إطار الحسابات السياسية الفعلية، ما يعني أن الكيان كله بات مأزوماً داخلياً، وربما يتعرض لمرحلة من التداعي قد تقوده إلى ما يشبه الحرب الداخلية.
من يحكم تل أبيب في ظل تداعي وعجز كل من تياري اليمين واليسار عن قيادة السياسة داخل «إسرائيل» وضبابية من يمكن أن يكون مؤهلاً لتولي تلك القيادة في مرحلة ثالثة باهتة المعالم من حياة هذا الكيان.
المصدر: الخليج الإماراتية