بقلم د. وليد القططي
قرار النائب العام للكيان الصهيوني تقديم لائحة اتهام ضد رئيس حكومة الكيان وهو على رأس عمله تشمل تُهماً خطيرة بالرشوة والاحتيال وخيانة الأمانة تستوجب المحاكمة ثم السجن إذا تحوّل من متهم إلى مُدان. قرار مهم يُشير في أحد جوانبه على قيمة ديمقراطية تعني عدم وجود أحد فوق القانون وأن لا حصانة لأحد مهما علا منصبه في الدولة، وقد سبق أن حوكم وسُجن رئيس وزراء سابق، ورئيس دولة، ووزراء حكومة، وجنرالات جيش. وهذه القيمة الديمقراطية غير موجودة في معظم الدول العربية ومن شابهها من دول العالم ما بعد الأول والثاني والثالث، هذا الجانب الايجابي من الموضوع، وربما الشيء الجيد الوحيد في كيان كل ما فيه سيء من رأسه حتى أخمص قدميه، وحتى تلك القيم الديمقراطية في نظام سياسي عنصري كنظام جنوب افريقيا السابق تفقد قيمتها الحقيقية، ولكن هذا ليس كل شيء، فتقديم نتنياهو للمحاكمة لا يُشير فقد إلى أزمة نتنياهو، بل إلى مأزق أعمق وأكبر من مجرد أزمة شخص هو رئيس حكومة الكيان الصهيوني.
توجيه لائحة اتهام ضد رئيس حكومة على رأس عمله، لا يدل على أزمة نتنياهو الخاصة فقط، بل يدل على مأزق (إسرائيل) المتعدد المسارات والوجوه، ومنها مأزق النظام السياسي الإسرائيلي، فاتهام نتنياهو بالرشوة والتحايل وخيانة الأمانة زاد طين المأزق السياسي بلة، وعمّق حالة العجز والشلل الضاربة أطنابها في النخبة السياسية والأحزاب الإسرائيلية، فالاتهام جاء بعد فشل عمليتين انتخابيتين في ولادة حكومة إسرائيلية، وأصبحت الحاجة ماسة لإجراء عملية ولادة قيصرية عبر انتخابات ثالثة- على الأرجح-، والاتهام قد يقضي على فرص نتنياهو بتشكيل حكومة برئاسته بعد أن أصبح موقفه القانوني والسياسي والحزبي على كف عفريت السياسة الحزبية القاسية، التي قد تؤدي إلى أفول نجم آخر (ملوك إسرائيل). وانتهاء عصر القادة الكبار، بعد أن أسدل الستار منذ زمنٍ طويل على جيل الآباء المؤسسين الكبار للكيان الصهيوني ابتداءً من بن جوريون إلى شارون، فمأزق النظام السياسي يتفاقم بمرور الزمن وعوامل التعرية لقيم الصهيونية المزيفة، فالنظام البرلماني الإسرائيلي بوضعه الحالي لم يعدُ قادراً على ولادة حكومة قوية، وإذا قدر لا يستطيع المحافظة على بقائها إلاّ بالتنفس الصناعي، لعجزه عن إفراز أحزاب كبيرة تحصل على أغلبية مقاعد الكنيست، فقد انتهى عصر الأحزاب الكبيرة، ومن يلقى على عاتقه تشكيل الحكومة من الأحزاب المتوسطة يخضع لابتزازات الأحزاب الصغيرة المتشاكسة والمتناقضة والمختلفة في كل شيء تقريباً إلاّ معاداة العرب وتكريس الاحتلال والاستيطان والتهويد. فشكل نظام الحكم وقانون الانتخابات أدى إلى كثرة الأحزاب الصغيرة، وسهولة تشكيلها واندثارها، وصعوبة تشكيل الحكومة وسهولة تفككها.
أزمة نتنياهو ومأزق (إسرائيل) السياسي مجرد الظاهر السيء الذي يُخفي تحته الباطن الأكثر سوءاً، والمأزق الأكثر عُمقاً، فالكيان الصهيوني يواجه مأزقاً أمنياً يحمل في جوهره طابعاً وجودياً، فدولة (إسرائيل) هي آخر كيان استيطاني إحلالي عنصري في العالم، يعيش في وسط مُعادي له يرفضه ولا يعترف بشرعيته- رغم اعتراف بعض الانظمة الحاكمة به- الكيان الوحيد في العالم الذي تعتبر هزيمته العسكرية الواضحة والحاسمة تهديداً لوجوده الفعلي كدولة، كيان لم يستطع تحقيق النصر الواضح الحاسم منذ نصف قرن تقريباً، ورغم قوته العسكرية الهائلة إلا أنه مُهدد بالزوال، وهذا ما أكده (ابراهام بورغ) رئيس الكنيست السابق ورئيس الوكالة اليهودية بقوله: "اذا بقيت إسرائيل دولة كولونيالية بطابعها فإنها لن تصمد، ففي نهاية المطاف ستكون المنطقة أقوى منها، والمظالم القائمة بالأساس ستكون أقوى منها، وكل من يأمل العيش على حد السيف، سيجد نهايته بالسيف". بل أن نتنياهو نفسه في الاحتفال السبعين بإقامة دولته كان أعلى طموح له أن تتخطى (إسرائيل) عمرها الثمانين وعلى الأكثر أن تصل لعمر مائة عام، بقوله: " المملكة الحشمونئية دامت ثمانين عاماً، وأن علينا بدولة إسرائيل أن نتخطى ونمر هذه الفترة... وأن نحتفل بمئوية دولة إسرائيل".
مأزق (إسرائيل) ليس مجرد خطر أمني خارجي على وجودها وإن كان هذا مؤكد وزوالها يقيني، ولكن من مأزقها الداخلي المتعدد الأوجه، وأحد أشكاله هو الأمن نفسه، فالحروب التي يخوضها الكيان دون أن ينتصر فيها، والمعارك التي يفجرها دون أن يحسمها، واستمرار صمود الشعب الفلسطيني فوق أرضه، ومواصلة المقاومة بكافة أشكالها، وسقوط الصواريخ فوق مُدن الكيان... يؤدي بدوره إلى فقدان الأمن الشخصي والقومي داخل الكيان، وهذا يفقد المستوطنين الاحساس بالأمن الشخصي والجماعي، وهذا يضرب جوهر المشروع الصهيوني القائم على الأمن والهجرة والاستيطان، فالإحساس بالأمن يجلب الهجرة والاستيطان، والعكس يؤدي إلى إضعاف الهجرة والاستيطان، وربما الهجرة العكسية من الكيان التي بدأت بالتزايد في السنوات الأخيرة، فأحد ركائز الدعاية الصهيونية قامت على أساس أن (إسرائيل) هي أكثر مكان آمن لليهود في العالم , فماذا لو أصبح أكثر الأماكن خطراً لليهود في العالم ؟!.
ومن أشكال مأزق الكيان الداخلي هو تآكل الأسس التي قام عليها المشروع والكيان الصهيوني، ومن مظاهر ذلك ظهور تيار إسرائيلي من النخبة الاكاديمية (المؤرخون الجدد) نزعت القداسة عن المسلمات الصهيونية وشككت في مصداقيتها كأحقية اليهود في (العودة) إلى فلسطين، وما يُسمى بــ (أخلاقية) الجيش الإسرائيلي، ونقد الرواية الصهيونية ( لــ (المحرقة النازية) والنكبة ( حرب الاستقلال). هذا على المستوى الأكاديمي، وعلى المستوى الفعلي ظهرت التناقضات داخل المجتمع الإسرائيلي وسقطت كل المراهنات على تذويبها، فلا زال التناقض بين اليهود الغربيين (الأشكناز) واليهود الشرقيين ( السفارديم) قائماً وما انفك التناقض بين المتدينين والعلمانيين موجوداً على أشده، وما برح الخلاف بين هوية الدولة وطبيعتها كدولة دينية يهودية أو دولة مدنية ديمقراطية منذ نشأة الدولة، وظلت مشكلة الدستور المفقود لذلك قائمة، وليس أدل على فقدان ما يُسمى بالروح الطلائعية للروّاد والصهاينة من انهيار حركة (الكيبوتس) وتراجع (القيم الصهيونية) التقليدية لصالح القيم الفردية الانتهازية الاستهلاكية، وضعف الاقبال على الوحدات القتالية في جيش الاحتلال، بل إن ( إسرائيل) نفسها كدولة لم تستطع الانتقال من دولة جيتو مغلقة داخل ثكنة عسكرية إلى دولة طبيعية لأسباب كامنة فيها قبل أن تكون بسبب محيطها العربي والإسلامي الرافض لوجودها، حتى قال أحد شعرائهم المشهورين (ناتان زاخ) "ان الصهيونية فشلت في تحقيق مُرادها وأن دولة الحليب والعسل التي وعدت بها تحوّلت إلى كومة شر وفساد". وكذلك العالم والسياسي (آمنون روبنشتاين) أكد كذلك بقوله : "ان الكيان الإسرائيلي لا يمكنه البقاء مطلقاً بسبب نوعين من التهديد: خارجي... وداخلي يتمثل في الفساد وتآكل منظومة القيم الصهيونية".
خُلاصة الأمر الحديث عن أزمة نتنياهو ومأزق (إسرائيل) لا يعني أن دولة الكيان الصهيوني على وشك السقوط، فعوامل بقائها الذاتية والموضوعية لا زالت أقوى من عوامل زوالها، واكتمال دائرة هزيمتها بحاجة إلى بناء عناصر القوة الذاتية لنا كفلسطينيين وعرب ومسلمين، وهذا بدوره يحتاج إلى إعادة بناء المشروع الوطني الفلسطيني المرتكز على التحرير والعودة والاستقلال، والمرتكز على عمقه العربي والإسلامي ليكون مشروعاً للأمة يضمن حريتها ونهضتها ووحدتها واستقلالها.