ما لا يفهمه البعض، أو لا يريدون فهمه أو ربما لا يريدون تذكره، هو أن حقائق السياسة لا تبنيها الكلمات والتهديدات المجردة، بل على العكس إن الكلمات تأخذ معانيها ودلالاتها الفاعلة حين تكون شديدة الارتباط بحقائق السياسة، اي حين تستند إلى الحقائق ومن هناك تمارس تأثيرها الخطر.
قرار ترامب باعلان القدس عاصمة لإسرائيل، بالمعنى السياسي العملي ليس نزقا او هفوة أو حماقة، قد يمكن وصفه بأنه كذلك من زاوية الأدب السياسي والأخلاقي، أما من الناحية البراغماتية والواقعية التي تحكم سياسات ومقاربات دولة كبرى مثل الولايات المتحدة ودولة عدوانية مثل إسرائيل فإنه يبدو واقعيا جدا ومبررا أيضا.
بمعنى أن ترامب لم يذهب لهذا القرار من فراغ، بل انطلاقا من معادلة غاية في البساطة وحقائق غاية في الوضوح. هذا ما أشارت إليه مجلة "وول ستريت جورنال" تحت عنوان "في الشرق الأوسط ترامب يمنح فرصة للواقع" حيث كتبت المجلة ".... كثيرون هم الغاضبون من قرار الرئيس ترامب الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل. وسائل الإعلام الليبرالية ومعظم المسؤولين السابقين الذين تعاملوا مع الصراع الإسرائيلي - الفلسطيني المعقد، وتقريبا كل شخص في الأمم المتحدة، يبدون متأكدين من أن القرار مرتبط على نحو كبير بطبيعة ترامب الفوضوية، أو بصهره جاريد كوشنر، أو بالمانحين الجمهوريين المؤيدين لإسرائيل. من المحتمل أن القرار بني على حقيقة أن هناك رابحين وخاسرين في كل صراع، وأن الفلسطينيين خسروا على نحو حاسم في صراعهم. لا يزال الفلسطينيون يريدون الإدعاء بأنهم لم يخسروا وأن حق العودة والوضع غير النهائي للقدس يمنحهم الأمل بأن التآكل التدريجي لإسرائيل لا يزال ممكنا. الأمريكيون والأوروبيون والإسرائيليون، لا العرب، هم المسؤولون بالدرجة الأولى عن إطالة أمد أكبر الأوهام الفلسطينية حول حق العودة والسيادة على القدس الشرقية...." (The Wall Street Journal ، نقلا عن الميادين برنامج آخر طبعة – 27 كانون أول 2017).
الفكرة هي أنه وبعد 100 عام من الصراع تقول المقاربة الأمريكية: هناك طرف منتصر أو رابح وطرف مهزوم أو خاسر، وبالتالي فإن على الخاسر أن يدفع ثمن خسارته، وفي هذه الحالة من المضحك أن ينتظر ذلك الخاسر أن يعطيه المنتصر في المفاوضات والمناشدات ما خسره في ميادين المجابهة.. وبالمناسبة هذه البديهة هي ذاتها التي كثيرا ما ذكرنا بها وأكد عليها الرئيس بشار الأسد في رده على محاولات القوى الخارجية وأدواتها وهي تحاول فرض أجندتها في جولات التفاوض المتعلقة بما يجري في سورية، حين كان يرد وبحسم: لا يمكن للقوى الأرهابية ومشغليها أن يأخذوا بالسياسة والمفاوضات ما عجزوا عن أخذه في الميدان.. أليس كذلك!؟
هذه الحقيقة والمقاربة البراغماتية عبر عنها ثعلب السياسة الأمريكية هنري كيسنغر بقوله: نتائج المفاوضات بين طرفين لا تقررها أحلام أو حسن نية ولباقة وإنسانية المتفاوضين، ما يقرر نتيجة المفاوضات ليس موجودا على سطح طاولة التفاوض المزينة بالزهور ويجلس حولها رجال مهندمون يتكلمون بطلاقة وأدب ولياقة، ما يقرر نتيجة التفاوض موجود هناك تحت الطاولة: موازين القوى.
هذا ما يفسر الكثير من ردود الفعل التي صدرت منذ قرار ترامب حول القدس وحتى الآن... حيث اجتمعت جامعة الدول العربية وبعدها القمة الإسلامية وبعدها مجلس الأمن الذي صوت بأغلبية 14 صوتا ضد الموقف الأمريكي، وبعد ذلك كان اجتماع الجمعية العمومية التي صوتت بأغلبية 128 دولة ضد قرار ترامب.. ومع ذلك لم يغير كل هذا في مواقف الإدارة الأمريكية شيئا، بل إنها راحت تعاقب مؤسسات الأمم المتحدة بقطع التمويل عنها... بمعنى أن كل هذه القرارات ليس لها أي تأثير فعلي وجدي باستثناء بعدها المعنوي والديبلوماسي والقانوني .. وهذا مهم بالطبع.. لكنه ليس هو الذي سيسقط قرار ترامب ويوقف مشاريع إسرائيل في بناء مليون وحدة سكنية استيطانية في القدس والضفة الفلسطينية.
لهذا لم يكن غريبا أن تكون نيكي هيلي مندوبة أمريكا بمنتهى الوقاحة عندما هَدّدت المَندوبين في كَلِمتها بأنّها لن تُقدّم المُساعدات مجّانًا، كما ليس غريبا أو مفاجئا أن يكون المَندوب الإسرائيليّ الاكثر وقاحةً، والأقل أدبًا، عندما وَصف 128 دولة أيّدت القَرار بأنّهم مِثل "الدّمى" .. وبأن قرار الجعية العمومية مكانه مزبلة التاريخ.
هذا معناه، بما أن قرارات الجامعة العربية والقمة الإسلامية والجمعية العمومية ليس هناك ما يسندها على صعيد موازين القوى، إذن لن تغير حقائق الواقع، والنتيجة لن تغير حقائق السياسة والمواقف، لهذا فإنها لا تشغل بال ترامب كما لا تشغل إسرائيل.
إذن، ما يشغل بال إسرائيل ومن خلفها الولايات المتحدة ليس كل هذه البيانات والقرارات والخطابات، فهما أصلان تتوقعان ذلك مسبقا... ما يشغل بالهما في العمق هو أمر آخر مختلف تماما.
ما يشغل بال إسرائيل وأمريكا هو كيفية الحفاظ على التفوق في الميدان، أي الحفاظ على معادلة المنتصر والمهزوم... بهذا المعنى فإن ما يقلق هذا الحلف هو السياسات التي تهدد فعلا بتغيير موازين القوى وعلاقات القوة القائمة منذ 70 عاما ما بين العرب والفلسطينيين من جانب وإسرائيل وحليفتها العضوية أمريكا ومن معهما من جانب آخر، ذلك لأن تغيير موازين القوى سيعني حكما تغيير حقائق السياسة.
ما يشغل بال إسرائيل ويقلقها هو أن تنقل القدس معادلة الصراع من الكلام والمناشدات والنقاشات القانونية المستمرة منذ عقود وتدفع بها نحو معادلات الفعل في الميدان، ما يقلق إسرائيل هو مقاومة الشعب الفلسطيني بأشكالها المتنوعة، ما يقلقها أن تتكرر تجربة حربها عام 2006 مع حزب الله، ما يقلقها في العمق هو خيار المقاومة بالمعنى الاستراتيجي، ما يقلقها هو الانزياح الميداني في موازين القوى بعد ست سنوات من الحروب التدميرية في سورية و العراق واليمن، وصعود إيران كقوة إقليمية كبرى وعودة روسيا بكل ثقلها العالمي، وهزيمة المشروع الداعشي الذي تم بناؤه لإشغال العالم العربي والمنطقة في حروب وأستنزاف داخلي طائفي وقومي وعرقي من أجل تمزيقها لألف قطعة.
ما يشغل بال إسرائيل في موضوع القدس هو أن تصبح "مفتاح النظام الإقليمي الجديد، حيث المواجهات ترسم الصورة المقبلة، بعدما بدا بوضوح استحالة أخذ الفلسطينيين على حين غرة، واستحالة تمرير الحلول المتفق عليها مع السعودية من وراء ظهر الفلسطينيين، واستحالة شطب القدس من الذاكرة الإنسانية" (ناصر قنديل- رئيس تحرير صحيفة البناء اللبنانية اليومية 23 كانون أول 2017).
الأمر المقلق لإسرائيل هو أن يبادر العرب والفلسطينيون إلى القطع مع الخيارات السياسية وفق المعادلات القديمة التي أساسها التسوية وفق موازين القوى القائمة وما ترتب عليها من حقائق، والانتقال لخيارات إستراتيجية جديدة جوهرها المقاومة بكل قواها وإمكانتها في المنطقة، بما يهيء الظروف والشروط لتغيير موازين القوى فعليا ويفرض حقائق جديدة على الأرض، بما يقود بالضرورة لفرض حقائق سياسية جديدة ليس لها علاقة بمعادلة الطرف العربي الفلسطيني المهزوم الذي يترتب عليه دفع أثمان هزيمته بما في ذلك التنازل عن القدس وحق العودة.
فهل سترتقي، يا ترى، السياسات العربية والفلسطينية لتثير فعلا قلق إسرائيل ومعها أمريكا أي الانتقال من استراتيجية المساومة... إلى استراتيجية المقاومة أم لا!؟ هذا هو السؤال...
هنا الوردة أرقص.... هنا الصخرة إقفز!.