ما يردده البعض من أقوال مغلوطة حول القدس من أنها غير عربية وأن تاريخها يرجع إلى اليهود، وإن إسرائيل ذكرت في القرآن الكريم، بينما لم تذكر فلسطين، وأن المسجد الأقصى لم يقم قبل العهد الأموي، وأن فلسطين لم تعرف كموطن للفلسطينيين العرب إلا بعد الفتح الإسلامي عام 15 هـ، وأن القدس عاصمة إسرائيل منذ ثلاثة آلاف عام. |
وأنه لم توجد دولة باسم فلسطين لا في العصورر القديمة ولا في العصر الحديث، وانها لم تحكم من قبل حاكم من أهلها في أي من مراحل التاريخ، وغير ذلك من الأقوال المسمومة التي تطعن في عروبة فلسطين وقدسية الأقصى ومكانته العقدية في الإسلام، وحيث بدأت هذه الأقاويل تأخذ شكل الحملة تزامناً مع الحديث عن صفقة القرن، عندما بدأ من الواضح أن تمرير الصفقة يتطلب أولاً التشكيك لدى الجماهير العربية في عروبة فلسطين وقدسية المسجد الأقصى، ويتطلب ثانياً ضرب التعاطف العربي تجاه القضية الفلسطينية والحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني وشيطنة الفلسطينيين وتصويرهم بأنهم باعوا الأرض والقضية.
ورغم أن القلة من الجماهير العربية المشكوك في عروبتهم ونقاء عقيدتهم أصبحت تتبنى وتجاهر بهذا الشذوذ السياسي غير المسبوق، إلا أن الكثيرين – مع الأسف- بدأوا يتساءلون عن حقيقة هذه الأقاويل وعن مدى صحتها، فتأتيهم إجابات عن طريق وسائل التواصل الاجتماعي أكثرها غير صحيحة، نتيجة النقص الشديد في المعلومات عن تاريخ فلسطين وحضارتها بشكل عام والقضية الفلسطينية وقضية القدس بشكل خاص.
هذه الظاهرة أو الحملة التي أسميتها قبل نحو ثلاث سنوات بحملة "تهويد العقل العربي"، والتي ركزت بشكل عام على الأجيال الجديدة، هذه الحملة هي التي جعلت طفلاً في الثانية عشرة من عمره – كما نقل لي - يسأل معلمته: متى سميت فلسطين بهذا الاسم وهل كان يحكمها حاكم فلسطيني؟.. بالطبع سؤال برىء لكنه يعكس حالة البلبلة التي تعيشها الأجيال العربية الحالية، وتبدو المشكلة أكبر عندما لا تملك المعلمة جواباً للسؤال.. إذن هناك خلل في التربية .. وخلل في المنهج الدراسي ، وخلل أيضاً في وسائل الإعلام. نحن ندرس أبناءنا في مادة التاريخ الثورة الفرنسية والوحدة الإيطالية والاتحاد الألماني أكثر مما ندرسهم عن قضية فلسطين، وأذكر أن قضية فلسطين كانت تدرس لنا في مادة التربية الوطنية في صفحة واحدة تحت عنوان "وعد بلفور" كتبها وزير التربية والتعليم حينئاك كمال الدين حسين. اليوم المصيبة أكبر عندما نجد أفيخاي أدرعي يفتي في المسألة الفلسطينية مستنداً على الآيات القرآنية والأحاديث النبوية فيعجب به مئات (الصهاينة العرب).. وإذا تصدى له شخص غيور على عقيدته وعروبته بسلاح الحقيقة اتهم من قبل العشرات بأنه إخواني!..
أكتفي هنا بالرد فقط على السؤالين اللذين سألهما الطفل لمعلمته، فأقول بأن فلسطين واحدة من الأمثلة النادرة لبلد ظل يحتفظ باسمه لآلاف السنين دون تغيير، وهذه حالة نادرة في التاريخ.. ففرنسا كانت تعرف ببلاد الغال وإيطاليا عرفت قديما ببلاد الروم، وإيران فارس...الخ. أما فلسطين فقد عرفت باسمها هذا وبشكل رسمي ومستمر منذ القرن السادس قبل الميلاد على أقل تقدير، وهو الاسم الذي أورده المؤرخ اليوناني القديم هيرودوت في القرن السادس ق.م.
ولمن هم تعدوا مرحلة الطفولة، ولمن يصغون إلى فتاوى أدرعي ويعجبون بها، نورد لهم هذا النص التوراتي: "وكان في الأرض جوع غير الجوع الأول الذي كان في أيام إبراهيم، فذهب إسحق إلى أبيمالك ملك الفلسطينيين" سفر التكوين: 26-1. إذن فلسطين والفلسطينيين موجودين على هذه الأرض منذ زمن اسحاق عليه السلام، أي حوالى سنة 1800 ق.م.
أما توماس طومسون فله مقولة جديرة بأن نوردها هنا: "السكان الأصليون في فلسطين لم يتغيروا كثيراً منذ العصر الحجري".. شكراً لطومسون الذي أنصف الشعب الفلسطيني من خلال شهادة استندت على الاكتشافات الأثرية في فلسطين الحضارة والتاريخ والتراث.
وأطلق الرومان على المقاطعات الإدارية في فلسطين حوالى سنة 400 ق.م الأسماء الآتية:
- مقاطعة فلسطين الأولى: وتضم مدن نابلس – القدس – الخليل – إضافة إلى السهل الساحلي حتى رفح. وكانت عاصمتها القدس.
- مقاطعة فلسطين الثانية: وتضم الجليل – أم قيس – قلعة الحصن – وكانت عاصمتها بيسان.
- مقاطعة فلسطين الثالثة: وتضم بلاد الأنباط ومنطقة بئر سبع ، وكانت عاصمتها البتراء.
- مقاطعة فينيقيا الأولى: وتضم حيفا- عكا- صيدا صور – بيروت وطرابلس (أرواد)، وكانت عاصمتها صور.
ومؤخراً أدعى الصهاينة، استناداً إلى الأبحاث التي أجريت على الهياكل العظمية لمقبرة عسقلان، أن الفلسطينيين عرفوا بهذا الاسم منذ القرن الثاني عشر ق.م ، ولسنا هنا بصدد تفنيد هذا الزعم، إنما فقط نؤكد على أن الفلسطينيين موجودين على مدن الساحل الفلسطيني في مدة زمنية أقلها 1200 سنة ق.م.
وحتى لو افترضنا أنه لم تستوطن فلسطين من قبل العرب إلا بعد الفتح الإسلامي لها فهذا يثبت أن فلسطين ظلت مأهولة بأهلها العرب منذ أكثر من 1400 عام في الوقت الذي خلت فيه تقريباً من اليهود.
الآن نأتي على ذكر محاولة البعض التشكيك بأن فلسطين لم تحكم من قبل أهلها في الزمن المعاصر. بالتأكيد فإن هذه المقولة تبعث على السخرية، فقد ظلت الدول العربية تحكم من قبل دولة الخلافة الإسلامية حتى نهاية الخلافة العثمانية مع نهاية الحرب العظمى(1918)، ثم وقعت فلسطين تحت الحكم البريطاني حتى العام 1948 عندما أعلن اليهود عن قيام دولتهم على 78% من أرض فلسطين بدعم الاستعمار البريطاني – الأمريكي. ولم تكن فلسطين استثناء، فقد وقعت جميع الدول العربية – باستثناء المملكة العربية السعودية – تحت الاحتلال البريطاني الفرنسي الإيطالي، ولم تحكم أي دولة عربية من قبل حاكم محلي إلا بعد التحرر من الاستعمار، وأول حاكم مصري يحكم مصر في العصر الحديث – منذ عصر الفراعنة- هو الرئيس محمد نجيب بعد ثورة يونيو 1952.
ولعل البعض لا يعرف أنه قام في فلسطين في فترة من تاريخها المعاصر حكم عربي فلسطيني مستقل، تمثل في دولة ظاهر العمر التي تأسست عام 1733 وكان لها قواتها العسكرية من أبناء البلاد، وكان لها اقتصادها القوي حيث كان انتاجها من القمح والقطن يصدر إلى فرنسا التي كانت ترتبط معها بعلاقات متينة، وفي مقابل ذلك كانت فرنسا تزود ظاهر بالسلاح والبارود.
هذه ليست الحقيقة كلها، وإنما شيء من النزر اليسير للحقيقة الكبرى التي تؤكد على عروبة فلسطين وقدسية ثراها الطاهر، فهي القبلة الأولى حيث المسجد الأقصى المبارك ثالث الحرمين الشريفين الذي تشد إليه الرحال وحيث كانت معجزة الإسراء والمعراج التي تعتبر أحد المكونات الرئيسة للعقيدة الإسلامية.