| تحسين الحلبي
ربما كان، بينتسي جيسبان، أحد المفكرين الصهاينة من الجيل الإسرائيلي الجديد، الذي تجرأ على الاعتراف بعمق أزمة الكيان الإسرائيلي السياسي وتحولها إلى انقسامات داخلية لا حلّ لها وخاصة بعد الطريق المسدود الذي وصلت إليه الأحزاب الإسرائيلية بعد دورتين لانتخاب أعضاء الكنيست وأصبحت مرشحة لدورة انتخابات ثالثة لفتح ثغرة في هذا الطريق.
جيسبان شخص بشكل أولي هذه الأزمة في 12 تشرين الأول 2018 حين نشر في صحيفة «يديعوت أحرونوت» مقالاً بعنوان: «الكذب السياسي الإسرائيلي: لا وجود ليمين ويسار» وضح فيه عدم وجود أي فرق حقيقي بين الجانبين اللذين يطلق عليهما اليسار واليمين فالصراع بينهما فئوي قبلي وناتج عن أزمة بنيوية، وفي 25 أيلول، نشر مقالاً في المجلة الإلكترونية «الأزمنة الإسرائيلية» تحت عنوان: «إسرائيل عام 2019: دولتان لشعبين الأولى إسرائيلية والثانية يهودية» يقول فيه: إن المنعطف الذي ولدته القرصنة السياسية أمامنا يشكل فرصة لنا للخروج من فخ الهويات التي صنعناها هنا، فثمة دولة إسرائيلية هنا أمام دولة أخرى يهودية، فقد تحولت بنظرة انتخابات عام 2019 في نسختها الثانية إلى خط فاصل في 17 أيلول 2019 في المجتمع الإسرائيلي، والنظام السياسي أصبح مريضاً وتزداد فيه أعراض المرض، ويرى أن من يشكل الغالبية الصهيونية في هذه الأحزاب قسم المجتمع الإسرائيلي إلى قبائل إسرائيلية تسعى كل واحدة منها للإطاحة بالأخرى، وأن ظاهرة عدم الانفراج في التوافق على حكومة ائتلافية بين أكبر حزبين الليكود وأزرق أبيض لا تعود أسبابها إلى الاختلاف الإيديولوجي لأن الجميع في عصرنا عصر ما بعد الإيديولوجيا أصبح من «الوسط» وهو اتجاه سياسي يخلط الجميع بالجميع عملياً، ويعترف جيسبان أن الحركة الصهيونية أنشأت دولة الفئات المستمدة من الأسباط «القبائل» اليهودية، وليس دولة يهودية يحمل أفرادها كلهم هويتها. فالأزمة العميقة هي أزمة وجود هويات تزداد بروزاً. ويستنتج أن إسرائيل لم تستطع خلق هوية إسرائيلية فهي مشوشة وهوية يهودية لا يهودية لها. ومع هذه الاصطلاحات والتناقضات فيما بينها وفي داخل أشكالها كانت النتيجة التي وصلت إليها دورتين من الانتخابات المتتالية هي ذات الانقسام والعجز المشترك لكلا الحزبين في تشكيل حكومة ائتلافية من الجيل الجديد.
يعزو جيسبان الأسباب العميقة لأزمة الهوية هذه بحقيقة أن الطوائف والفئات اليهودية التي هاجرت في فترات زمنية مختلفة أحضرت معها هويتها الخاصة، فالمتدينون الغربيون الذين جاؤوا من أوروبا والغرب لهم هويتهم التي تختلف عن هوية اليهود المتدينين الذين جاؤوا من الشرق، وكل فئة منهم رسخت مواصفات هويتها خلال سبعين عاماً، أما الصهيونيون العلمانيون فلم يتمكنوا هم أيضاً من منع انقساماتهم التي تعود لمنشئهم في أوطانهم السابقة وفي ثقافاتهم التي حملوها إلى إسرائيل، ولم يعد يجمعهم سوى عبارة الصهيونية التي تفسرها أحزابهم على طريقتها ومفهومها المتناقض مع اليهود المتدينين الذين أصبحت نسبة وجودهم في الكنيست تزيد على 18 بالمئة أمام 11 بالمئة من الفلسطينيين الذين تمثلهم القائمة العربية المشتركة، فيصبح ثلث من يقيم في هذا الكيان دولة على طريقته، وبقية الثلثين دول صغيرة بلغت درجة متزايدة من أزماتها الداخلية في علاقاتها مع بعضها وفي علاقاتها مع الثلث الآخر.
لا شك أن هذه النتائج التي تكشف عن نفسها في هذا المشروع الصهيوني تدل على حتمية فشله في تحقيق أهدافه الداخلية وفي أهدافه الخارجية، فالكل يلاحظ أن القوة العسكرية الإسرائيلية التي أنشأتها ودعمتها أكبر القوى العظمى الاستعمارية باتت تواجه تراجعاً واضحاً في قدرتها على خوض حروب شاملة أو حروب شبه محدودة ضد جوارها، وسقطت نهائياً عقيدتها العسكرية التي استندت إليها في نقل الحرب وعملياتها ومعاركها إلى أراضي الدول الأخرى المجاورة، وأصبحت كل حرب أو عملية عسكرية تشنها ضد جبهة الشمال أو الجنوب ضد قطاع غزة تتسبب بنقل عمليات المقاومة الصاروخية إلى داخل مستوطنات ومدن إسرائيل، وبهذه الطريقة تحولت الجبهة الداخلية الإسرائيلية إلى جبهة الحرب الأمامية وهو ما لا تتحمله البنية الاجتماعية والمعنوية لإسرائيل، ولذلك اختفت من الحملات الانتخابية للحزبين الرئيسين في إسرائيل المنافسة والمزايدة على شن الحروب، وطالما بقيت عوامل هذه الأزمة الشاملة الإسرائيلية تتفاعل، وستظل تتفاعل، فسوف تظل نتائج أي انتخابات لنسخة ثالثة أو أي حكومات ائتلافية تحمل ظواهر الضعف والعجز نفسها عن تجاوز هذا الوضع ومضاعفاته على كل المشروع الصهيوني في المنطقة.