الاستشراف هو التنبؤ بالمستقبل والحدس به، ويدخل في إطار التوقع والتصور والتحري بما سيقع في المستقبل من أحداث، والرؤية الاستشرافية للمستقبل تعني وضع احتمالات مُمكنة الحدوث، أو رسم صور تقريبية محتملة للمستقبل، أو رسم مجموعة من السيناريوهات المتوقعة لمسار حدث ما في المستقبل، ويُشير مفهوم الاستشراف إلى منهجية علمية تحاول التنبؤ بالتطورات التي ستحدث في المستقبل في ضوء جملة من المعطيات في الوقت الحاضر.
ولاستشراف صحيح للمستقبل يجب أن يكون مبني على قراءة منهجية وصحيحة لسنن التاريخ، وعلى تشخيص واستقراء موضوعي ودقيق لمعطيات الواقع الحاضر، وعلى حدس سليم بمالآت الماضي والحاضر في المستقبل. وهذا النوع من الاستشراف أبدع فيه الدكتور الشهيد فتحي الشقاقي مؤسس حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين وأمينها العام الأول في رؤيته للكثير من مآلات الأحداث ولا سيما اتفاقية أوسلو التي وقعت عام 1993 والسلطة الفلسطينية التي أُقيمت عام 1994، وقد استشرف مستقبلها قبل توقيعها وبعد توقيعها منذ عام 1991 وحتى استشهاده عام 1995، وذلك قبل أن تتضح الحقائق التي كانت مجرد توقعات في الماضي قبل حوالي ربع قرن من اتضاحها للجميع، فالمستقبل الغامض آنذاك هو الحاضر الواضح اليوم.
توقع الشهيد الشقاقي فشل اتفاقية أوسلو في مقابلة صحفية مع مجلة العالم عام 1993 فور توقيعها وكان مما قاله: " من المؤكد أن هذا الاتفاق في النهاية يحمل بذور فشله في داخله، ولن يستمر بفعل هذا التناقض الداخلي فيه وبفعل رفض ومقاومة شعبنا". ليؤكد على هذه الحقيقة مرة أخرى في نفس السنة وقال: " الاتفاقية في حد ذاتها ضعيفة هشة ولا يمكنها الصمود أمام تعقيدات عديدة مثل غياب الأمن وفشل التنمية وعدم تحسن الوضع الاقتصادي، فالاتفاقية تملك عوامل موتها في داخلها". واليوم بعد أكثر من ربع قرن لم يعُد أحد يُجادل عن فشل اتفاقية أوسلو في تحقيق أهدافها - التي كان الطرف الفلسطيني الذي وقعها قد روّج لها- وأهمها الانتقال إلى الدولة الوطنية المستقلة في الضفة والقطاع، واذكر هنا ما قاله نبيل شعث عشية التوقيع على اتفاقية أوسلو وقوله "تأكدت اليوم أن ثمانين بالمائة من فلسطين قد ضاعت ، وأنني لا أستطيع أن أعد أولادي بأن تكون لهم دولة على الجزء المتبقي منها".
وقد توقع الشهيد الشقاقي بأن اتفاقية أوسلو ستُكرس الاحتلال بقوله: " اتفاق أوسلو ليس اتفاق سلام، بل تكريس للاحتلال على كل فلسطين والهيمنة على كل فلسطين". وقوله رحمه الله : " من قراءة الاتفاق أرى أن السلطة الحقيقية هي سلطة الاحتلال، الاتفاق عنوان آخر لاستمرار الاحتلال". ما قاله الشقاقي احتاج إلى ما يُقرب من ربع قرن ليُقر به صانعو أوسلو بقولهم "نحن سلطة بدون سلطة تحت احتلال بدون كلفة" ... "نحن نعيش تحت بساطير الاحتلال"، والواقع يؤكد ذلك، فسنوات أوسلو شهدت ترسيخ سلطة الاحتلال- السلطة الوحيدة الحقيقية في الضفة الغربية- وشهدت تمدد وتضاعف الاستيطان ما يُقرب من خمس مرات، وتسارع وتيرة تهويد القدس، وتضاعف الطرق الالتفافية التي يسيطر عليها جيش الاحتلال ومستوطنوه، وكل مظاهر الاحتلال، ومن أوضح مظاهره ضم الضفة الغربية أو أجزاء مهمة منها لسيادة الكيان الصهيوني القانونية وهو ما توقعه الشقاقي بقوله عن أوسلو "وهو يُمهد لإعلان ضم الأراضي في الضفة الغربية وقطاع غزة إلى دولة الكيان الصهيوني"
لقد توقع الشهيد الشقاقي أن اتفاقية أوسلو تُمهّد للتطبيع مع العدو، فقد قال في أحد اللقاءات الصحفية "اليوم وعبر غزة أريحا يتدفق اليهود الصهاينة إلى العواصم العربية والإسلامية لنظام شرق أوسطي جديد حيث هم مركزه وسيده، هذا يعني أن تبقى الأمة تحت نعالهم، إن خطر التطبيع القادم مذهل لو تخيلناه، ولذا على الشعوب الصابرة المؤمنة أن تستعد لهذا الغزو الصهيوني الجديد"، وما تخيله الشقاقي أصبح واقعاً اليوم في ظل ما يُسمى بصفقة القرن التي أهم ركائزها شرعنة وجود الكيان الصهيوني، وكان الشقاقي قد نبه إلى خطورة أوسلو ومن قبلها كامب ديفيد في إحداث اختراق صهيوني للأمة من خلال التطبيع موضحاً أن التطبيع يعني للصهيونية الرضوخ العربي والإسلامي لحقيقة وجود الكيان كأمر واقع لا مجال لإزالته وبالتالي إنهاء الصراع معه، وهذا تُمهّيد للتوسع الإسرائيلي وإقامة (إسرائيل الكبرى) لتصبح دولة طبيعية رائدة ومهيمنة في المنطقة العربية والإسلامية.
توّقع الشهيد الشقاقي أن اتفاقية أوسلو تُمهّد لصفقة القرن- موضحاً مضمونها قبل أن تأخذ هذا الإسم بالتحديد- وقد قال: " الاتفاق الإسرائيلي الفلسطيني الذي وقع مؤخراً في واشنطن... ضد الأمة العربية والإسلامية وضد المنطقة لإعادة صياغتها من جديد على أساس أن يكون هذا الكيان الصهيوني الغريب جزءاً مركزياً مهيمناً منها... إن هذا الاتفاق يفتح الباب أمام الكيان الصهيوني ويُمكّنهُ من العبور إلى كل الوطن العربي الإسلامي.... سنرى كيف تتهاوى دول عربية وإسلامية من طنجة إلى جاكرتا لتعترف بالكيان الصهيوني وتفتح أبوابها لليهود، وتقيم علاقات دبلوماسية معهم". وهذا هو جوهر صفقة القرن بعد تصفية القضية الفلسطينية وهو دمج (إسرائيل) في المنطقة العربية والإسلامية وشرعنة وجودها بعد أن كان وجودها أمراً واقعاً مفروضاً بالقوة، مطلوب أن يأخذ الطابع الشرعي يتعايش بشكل طبيعي وتقبله الأنظمة الحاكمة وشعوب الأمة العربية والإسلامية، وفي هذا السياق كانت أوسلو محطة على الطريق بين وعد بلفور وصفقة القرن لدمج وشرعنة وجود الكيان الصهيوني.
توقع الشهيد الشقاقي أن اتفاقية أوسلو تمهد للانقسام الفلسطيني الذي حدث عام 2007، وانتاج سلطة قمعية في قوله: " هذا الاتفاق يجعل الشعب الفلسطيني عُرضة للاقتتال الداخلي، والقمع على يد السلطة الجديدة، التي ستضيف إلى وسائل العدو الصهيوني وسائل جديدة للقمع والتعذيب، ومنع المجاهدين من الاستمرار في جهادهم ونضالهم لتحرير وطنهم". وهذا ما حدث بالفعل بعد إقامة السلطة الفلسطينية عندما اقتتل الإخوة بسبب الصراع على سلطة تحت الاحتلال، فإضافة إلى مأزقي الاحتلال وأوسلو جاء مأزق الانقسام ليكون سبباً لمآزق أُخرى زادت معاناة الشعب الفلسطيني وعمّقت مأساته، وأضعفت موقف القضية الفلسطينية أمام العالم، وحرفت بوصلة الصراع مع العدو نحو صراعات داخلية عنيفة. وقد صدق تنبؤ الشقاقي في أن أوسلو ستنتج سلطة قمعية تقف حاجزاً بين الاحتلال والشعب، وتمنع المجاهدين من مواصلة مقاومتهم للاحتلال وتخرج جزءاً مهما من الشعب الفلسطيني من دائرة النضال الوطني نحو نضال وهمي في بناء سلطة وهمية.
توقع الشهيد الشقاقي أن اتفاقية أوسلو ستزيد معاناة الشعب الفلسطيني وذلك في الوقت الذي تم فيه ترويج أن اتفاقية أوسلو ستحوّل الضفة والقطاع إلى سنغافورة جديدة، فقال في هذا المعنى : "ما هو سبب معاناة الناس؟ الاحتلال بالطبع، فهل سيزول الاحتلال حسب اتفاقية أوسلو؟ العكس هو الصحيح... إن حديث رفع المعاناة عن شعبنا في ظل الاتفاق هو أكبر الأوهام التي يجري تسويقها، الأخطر أننا نشتري الوهم بأغلى وأكبر ثمن يمكن أن يقدمه شعب في التاريخ، أن نسلم للعدو بالبقاء على كامل الوطن المقدس". وإذا كان ما توقعه الشقاقي قبل ربع قرن مشكوك في صحته في ذلك الوقت، فلا مجال للشك فيه بعد أن أصبح المستقبل حاضراً واقعاً بالفعل. فالاحتلال والازدهار نقيضان لا يلتقيان، فأول خطوات البحث عن حياة كريمة تتوّفر فيها مقومات الحياة المادية والمعنوية الكريمة هي التخلّص من الاحتلال أو على الأقل إعادة وضع عجلات قطار المشروع الوطني الفلسطيني على قضبان سكة التحرير والعودة والاستقلال، وما دون ذلك مجرد وهم كبير يُسهم في إطالة عُمر الاحتلال.
هذه بعض النقاط التي كانت نوعاً من استشراف المستقبل الذي أصبح حاضراً توقعها وتنبأ بها الدكتور الشهيد فتحي الشقاق قبل ما يزيد عن ربع قرن من الزمن عاشها الشعب الفلسطيني ينتظر الخلاص الذي لم يأتِ بعد، وإذا أردنا أن نبدأ الخلاص لا بد أن نعترف بأن أوسلو ومخرجاتها مأزق كبير وكمين نصبه العدو للشعب الفلسطيني، وأن نعترف كذلك بأن الخروج من هذا المأزق والكمين يحتاج إلى جهد كل الشعب الفلسطيني وأُطره الوطنية الشعبية والمقاومة، وأن نعترف بأن الفكر السياسي الذي قادنا إلى أوسلو بحاجة إلى مراجعة لتصحيح مسارنا نحو التحرير والعودة والاستقلال، وهذا بحاجة إلى قيادة وطنية تشكل مرجعية واحدة للشعب الفلسطيني، وتتمسك بالحقوق الوطنية الثابتة للشعب الفلسطيني، وتتبنى نهج المقاومة الشاملة في صراعها مع العدو، وتُعيد بناء المشروع الوطني الفلسطيني على أساس متطلبات مرحلة التحرر الوطني القائمة على التحرير والعودة والاستقلال.