يُطبّقُ الكيان الإسرائيلي منذ استيلائه على كامل فلسطين المحتلة بين 1948 و1967 نظرية القتال الهجومي على أراضي الدول العربية المجاورة، فيحتلّ قسماً منها مثيراً الاضطراب في كياناتها السياسية من دون أن يُصاب الداخلُ «الإسرائيلي» بأيّ ضرر.
هذا ما نفذه في حرب 1967 عندما احتلّ شبه جزيرة سيناء المصرية وأراضي سورية في الجولان وقسماً من لبنان والأردن مستولياً على الضفة الغربية التي كانت تحت السيادة الأردنية.
وكرّر الأمر نفسه في 1973 بتركيز الحرب في الجولان وسيناء عابراً قناة السويس نحو أراضٍ مصرية جديدة.
أما النتيجة في تاريخه فبدت كارثية، يكفي أنّ مصر السادات انسحبت من الصراع العربي ـ «الإسرائيلي» في اتفاقية كمب ديفيد 1979 فاستعادت سيناء بالمقابل، إنما من دون ثرواتها من الغاز الذي استمرّت «إسرائيل» بنهبها بموافقة مصرية مع شرط آخر وهو حظر دخول الجيش المصري إليها إلا بأعداد صغيرة جداً على أن ترعى الأمن فيها قوات من الشرطة والأمن، فيما بقي الجولان محتلاً لرفض الدولة السورية المساومة عليه، وكذلك لبنان.
ما عزّز من آمال الكيان المحتلّ بتوسيع أدواره «السياسية» هو ذلك المنتحل صفة «ربيع عربي» فاعتقدت «إسرائيل» أنّ تفتيت سورية والعراق بواسطته هو الوسيلة الناجعة لبناء دور إقليمي لها سياسياً واقتصادياً يضع إمكاناتها العسكرية في خدمة أنظمة الثروات النفطية والغازية والاستهلاكية.
لكنها أصيبت بهلع بنيوي لرؤيتها الدول الوطنية في سورية والعراق وهي تستعيد سيادتها بالقوة العسكرية في وجه إرهاب كوني مدعوم من الأميركيين وحلفائهم الدوليين والإقليميين والإسرائيليين بالغارات الدائمة والدعم التسليحي واللوجستي.
كما بُوغتت بقوة حزب الله الذي استطاع تلبية الميدان السوري عسكرياً، فيما لم تَغفُلُ عيناه عن جنوب لبنان ناشراً ثقافته السياسية بالمقاومة على مدى عربي وإسلامي وازن، وكذلك إيران التي تجابه «إسرائيل» بالدعم العسكري لحلفائها في الشرق وفلسطين المحتلة، وتعطي لهذا الصراع أبعاداً ايديولوجية بين فكر محلي مقاوم وآخر استعماري له أذنابه في المنطقة.
لذلك تتعرّض إيران لأعنف حصار معروف منذ نصف قرن تقريباً بسبب عدائها الجذري للكيان الإسرائيلي كما يندرج اليمن في هذا المعطى مؤدّياً دوراً هاماً وضاغطاً في التصدّي لعدوان سعودي عليه يتواصل منذ خمس سنوات.
بدوره العراق لم يبخل بالتصدّي لهذا الربيع المزعوم ضارباً الإرهاب على معظم مساحاته بشكل لم يتبقّ إلا زوايا تحتلها تركيا وتسيطر عليها قواعد أميركية تحمي بؤر الإرهاب قربها.
لم يعجب هذا الوضع الأميركيين والإسرائيليين وحلفاءهم في الخليج، فحاولوا تأمين دور إقليمي لـ «إسرائيل» بالغارات الجوية محدّدين مداه الى حيث تصل مقاتلاتهم الحربية من أعالي اليمن الى قلب بيروت مروراً بإيران والعراق وسورية.
هذا ما أرادته «إسرائيل» من غاراتها الأخيرة على سورية والعراق والضاحية الجنوبية في لبنان. وهو التعويض عن تراجعات المشروع الأميركي الإرهابي في الشرق الأوسط وإعادة تأسيس دور إقليمي جديد أميركي «إسرائيلي» يتولى الكيان المحتلّ فيه الاستهداف الجوي، فيربح في السياسة من دون ان يخسر جنوداً فيما تتولى القوات الأميركية جانب أمن الملاحة من هذا الدور الإقليمي، ومسألة الاتفاق النووي الإيراني لضبط التطور الإيراني لناحية الدور الإقليمي والتحالفات الدولية.
لذلك فإنّ الدور الإقليمي الإسرائيلي توسّل شعار ضرب الصواريخ الدقيقة لإضفاء شرعية على غاراته.
بدورهم اخترع الأميركيون حكاية امن الملاحة في الخليج والخطر النووي الايراني لنثرِ صدقية على إرهاصاتهم الاستعمارية.
من جهتها، تصدّت إيران بإسقاط مسيّرة أميركية حديثة جداً وأسرت ناقلة نفطٍ بريطانية، ويتهمها الأميركيون بتفجير واصابة ناقلات نفط اخرى في مياه الخليج.
ماذا على مستوى الصواريخ الدقيقة؟
سورية المنهمكة بقتال إرهاب كوني تاريخي ودول استعمارية تؤدّي دوراً بطولياً تعطي الأولوية فيه للأكثر خطورة على مراحل تدريجية في تحركاتها السياسية.
فالتزم حزب الله التصدّي المباشر للدور الإقليمي الجديد للكيان الإسرائيلي، خصوصاً بعد محاولة قصف أهداف له في الضاحية الجنوبية، ومخازن للحشد الشعبي ومواقع في سورية.
هذا ما يؤكد أنّ قصف حزب الله لمدرّعة إسرائيلية في مستوطنة «أفيفيم» هو عمل عسكري بأبعاد سياسية واستراتيجية ضخمة.
بداية، لا شك في أنه استهداف للجيش الإسرائيلي يجعله مكشوفاً بشكل مباشر في كامل مناطقه المتاخمة للبنان، وهذا ليس جديداً لأنّ التجاور الجغرافي موجود منذ 1948 وخرقه حزب الله في الـ 2006 بصاروخ على تل أبيب في ردّ على قصف الضاحية في تلك المرحلة.
ما هو جديده إذاً؟
إنه ينقل الصراع العربي ـ «الإسرائيلي» الى داخل فلسطين المحتلة متسبّباً بواحد من أمرين: الأول بفتح «إسرائيل» حرباً شاملة على حزب الله وسورية لتستعيد قواعد الاشتباك التاريخية القديمة ايّ القتال في الأراضي فقط، وهذا ما لم يعد ممكناً للجهوزية السورية الكبيرة واحترافية حزب الله في القتال الذي يجمع بين الأسلوبين الشعبي والكلاسيكي، اما الأمر الثاني فهو سقوط محاولات بناء دور إقليمي جديد لـ «إسرائيل» وعودتها الى حدود فلسطين المحتلة وهو خيار له مخاطره على استمرارية «إسرائيل» في احتلال فلسطين المحتلة، بما يؤكد انّ قذائف حزب الله على «أفيفيم» لها أبعاد استراتيجية ضخمة قد ترسم ملامح الصراعات المقبلة مع الكيان المحتلّ، بما يؤكد انّ حزب الله ذاهب نحو أداء أدوار إقليمية اساسية في منطقة مضطربة يخترع الأميركيون شعارات للاستمرار في احتلالها بالتعاون مع الكثير من دولها التي لم تعُد تمثل شعوبها بقدر ما تحتمي بالغرب لحماية عروشها وتيجانها من غضب الشعوب.. وهذا لن يتأخر.