رندة حيدر
يشيع حديثٌ عن "خطة سرّية" إسرائيلية لتشجيع فلسطينيي قطاع غزة على الهجرة إلى الخارج، وعن استعداد إسرائيل لتقديم مساعدة مالية للراغبين في الهجرة. بالإضافة إلى كلام في لبنان عن وجود "مؤامرة منظّمة" لدفع اللاجئين الفلسطينيين إلى الهجرة من لبنان بتواطؤ دولي. أين الحقيقة؟ وما هي أوجه الشبه بين هجرة الشباب الفلسطيني من غزة وهجرة اللاجئين الفلسطينيين من لبنان؟
السبب الأساسي للهجرة من قطاع غزة الحصار الذي فرضته إسرائيل عليه، منذ فوز حركة حماس في الانتخابات في 2006. وكذا الأزمة الاقتصادية الحادّة وتدهور الأوضاع المعيشيه، وانسداد الأفق السياسي، والارتفاع المريع في معدلات البطالة وسط الشباب، ومشاعر اليأس وخيبة الأمل من القيادات والزعامات المحلية. وقد باتت غزة مهدّدة بكارثة إنسانية بكل معنى الكلمة. طوال سنوات، كان أهالي غزة يعيشون في ما يشبه سجناً كبيراً، سيما بعد إغلاق السلطات المصرية معبر رفح فترات طويلة، وهو المتنفس الوحيد لهم للسفر إلى الخارج. ولذلك لا يمكن الحديث عن هجرتهم من القطاع إلا خلال العام الأخير بعد موافقة السلطات المصرية على فتح المعبر بصورة شبه دائمة أمام عبور الفلسطينيين. وبالاستناد إلى أرقام منظمات دولية تابعة للأم المتحدة، سجل خلال 2018 خروج نحو 60.907 فلسطينيين من قطاع غزة عبر معبر رفح، عاد منهم 37.075. وبحسب تقديرات إسرائيلية، غادر غزة خلال العام الماضي حوالي 35 ألفاً، بينهم نحو 150 طبيباً وعدد من الصيادلة وشباب من حملة الشهادات العالية. يدفع الراغب في الهجرة من غزة أربعة آلاف دولار، يجمعونها من أفراد عائلاتهم أو يأخذونها قرضا من البنك على أمل تسديده بعد استقرارهم في دولة أوروبية، وأكثر الدول المطلوبة ألمانيا والسويد.
تختلف هجرة الشباب الفلسطينيين من لبنان عن هجرة شباب غزة في أنهم لا يعيشون حالة حصار واحتلال من إسرائيل، ولكن أوضاعهم الحياتية في مخيمات اللجوء في لبنان لا تختلف كثيراً عن الأوضاع في غزة، سواء في الوضع السيئ للبنى التحتية، وتدهور مستوى المعيشة، والفقر والبطالة، وفلتان الوضع الأمني نتيجة الاقتتال الداخلي بين التنظيمات، وخصوصاً بسبب قيود الدولة اللبنانية على عملهم وتملكهم وتنقلاتهم، فلا غرابة في أن يدفع اليأس وانسداد الأفق الشباب الفلسطيني في لبنان إلى الهجرة. وبحسب مصادر فلسطينية، بدأت الموجة الجديدة لهجرة اللاجئين الفلسطينيين من لبنان بصورة قانونية في 2017 إلى ألمانيا خصوصا. وأفاد تحقيق في نشرة "جسور" (تصدرها لجنة الحوار الفلسطيني اللبناني) في 2019، بأن معظم عمليات الهجرة تجري بواسطة شخص معروف وسط الفلسطينيين، يقوم بتدبير الهجرة، لقاء ما بين 8 آلاف و12 ألف دولار، من بيروت إلى إسبانيا وإيطاليا وبلجيكا والسويد مثلا. وبحسب أرقام فلسطينية، غادر نحو 1500 فلسطيني بهذه الطريقة خلال الأشهر الستة الأخيرة من عام 2018 الذي أعلنت إسبانيا، في نهايته، تفكيكها شبكة تهريب للمهاجرين، وتوقيف أشخاص فيها بتهمة تسهيل هجرة الفلسطينيين إلى الخارج وتقديم طلبات لجوء احتيالي.
ويجري في إسرائيل استغلال الحديث عن "خطة سرّية" لدفع الفلسطينيين إلى الهجرة من غزة لأغراض انتخابية، فمن شأن الفكرة التي يروج لها رئيس الحكومة، نتنياهو، أن تجذب مجدّدا أصواتا من اليمين المتطرّف إليه، ويمكن أن تساهم في تلميع صورته، وتعزيز فرص فوزه في الانتخابات التي يخوضها هذه المرّة، وهو غير متأكد من الحصول على الأغلبية في الكنيست الجديد. ولكن هذا الكلام، بحسب معلق إسرائيلي، بمثابه بيع للأوهام. إذ لا يمكن لسياسة تشجيع هجرة الفلسطينيين من غزة أن تغير شيئاً في الواقع الديمغرافي هناك، أو أن تقيم حقائق جديدة.
ويأتي الحديث، في لبنان، عن تشجيع هجرة الفلسطينيين في ظل حدثين مهمين: دولي؛ وهو قرب الإعلان عن الشق السياسي لصفقة القرن المنتظر أن تقدّم "حلاً" لمسألة اللاجئين الفلسطينيين في لبنان، بتوطينهم أو هجرتهم الطوعية. ومحلي؛ وهو التدابير القاسية التي اتخذتها وزارة العمل اللبنانية أخيرا لتنظيم العمالة الفلسطينية، والتي أشعلت موجة احتجاج شعبي كبيرة في المخيمات. ولكن الراهن أن الشباب الفلسطيني، في غزة ولبنان، لا يختنقون فقط تحت وطأة الحصار والبطالة والأفق المسدود، بل يعانون أيضاَ من انعدام الأمل بحياة كريمة وعيش أفضل، ومن اليأس من قياداتهم وزعاماتهم المحلية. ولا يختلف حالهم كثيراً عن وضع شباب لبنانيين تخرّجوا بالآلاف من الجامعات، ولم يجدوا وظائف في بلدهم ويحلمون بالهجرة إلى أي مكان، ويشعرون بخيبة أمل من زعاماتهم السياسية، ومن قيادات البلد المنشغلة بخلافاتها السياسية والطائفية وصراعاتها على السلطة، على حساب مصالح الناس، وخصوصا الشباب.