حسن نافعة
لم يكن الخطاب الذي ألقاه السيد حسن نصر الله بمناسبة الذكرى السنوية لانتصار حزب الله في الحرب التي شنتها عليه إسرائيل عام 2006، تقليديا بأي معنى من المعاني، فبالإضافة إلى ما احتوى عليه من رسائل تقليدية كان نصر الله يحرص عليها دائما في هذه المناسبة السنوية، كالعمل على بث الطمأنينة في نفوس الأنصار والمؤيدين، من خلال التأكيد على أن قوة حزب الله تنمو على الدوام وأصبحت اليوم أقوى مما كانت عليه في أي وقت مضى، أو التأكيد على أن إسرائيل لن تجرأ على تكرار ما فعلته مرة أخرى، الخ. تضمن خطاب الأسبوع الماضي رسائل أخرى جديدة ولافتة للنظر:
الأولى: تتعلق بحدة النغمة التي استخدمها لتحذير إسرائيل من مغبة شن حرب جديدة على حزب الله، أو على لبنان. فقد وجه نصر الله تحذيره هذه المرة إلى الإسرائيليين مباشرة، حكومة وشعبا، قائلا: «لن نكتفي في الحرب القادمة بتدمير ألويتكم وفرقكم وآلاتكم العسكرية، ولكننا سنجعلكم تشاهدون وتتابعون هذا التدمير بأم أعينكم في بث مباشر على الهواء من ميدان المعركة». ولا يمكن لقائد سياسي أو عسكري أن يتحدث بهذه اللهجة، إلا إذا كانت لديه ثقة هائلة في النفس وفي جهوزية المقاتلين.
الثانية: تتعلق بحرصه الواضح على تأكيد «وحدة محور المقاومة» وحديثه المفصل عما يمكن أن يحدث إذا ما هوجم أحد مكوناته. ويلاحظ هنا أن نصر الله لم يكتف بتوسيع نطاق هذا المحور ليشمل: فلسطين وسوريا والعراق واليمن وإيران، أو التأكيد على أنه أصبح يواجه مصيرا واحدا غير قابل للتجزئة، وإنما على أن يؤكد في أكثر من موضع على أن أي عدوان على أي من مكونات هذا المحور يعد عدوانا على باقي مكوناته، ومن ثم سيقابل برد فوري ومنسق من الجميع.
إذا حاولنا ترجمة ما تنطوي عليه الرسائل المتضمنة في خطاب نصر الله، على الصعيد الإجرائي، يمكن القول إن الأمين العام لحزب الله، كان شديد الحرص على لفت الأنظار إلى حالة الاستقطاب التي تمر بها المنطقة حاليا، وبأن هذه الحالة تتسم بتصاعد الصراع بين محورين متصارعين، إلى الدرجة التي تهدد بوقوع حرب شاملة بينهما:
المحور الأول: تقوده الولايات المتحدة وإسرائيل، وتشارك فيه بهمة ونشاط كل من السعودية والإمارات، ويبدو في حالة تأهب وتحفز، نظرا لحرصه الشديد على الإمسك بزمام المبادرة وتوجيه مسار التفاعلات، في منطقة يصر على إخضاعها لهيمنته المنفردة.
والمحور الثاني: تقوده إيران، بالتعاون مع النظام السوري، وتشارك فيه حركات وتنظيمات سياسية وعسكرية، كحزب الله اللبناني، وحركتي حماس والجهاد الفلسطينيتين، وأنصار الله (الحوثيون في اليمن)، والحشد الشعبي وغيره من التنظيمات المشابهة في العراق. ورغم أن هذا المحور يعد في موقف الدفاع عن النفس، إلا أنه يبدو مصمما في الوقت نفسه على مقاومة المخططات الأمريكية والإسرائيلية للهيمنة على المنطقة.
يرى نصر الله أن «محور المقاومة» تمكن أخيرا من تحقيق ما يكفي من «توازن الردع» للحيلولة دون تمكين المحور الأمريكي- الإسرائيلي من فرض إرادته أو إملاء شروطه عليه، وأن أي محاولة لتغيير التوازن القائم بين المحورين بقوة السلاح، ستؤدي حتما إلى اندلاع حرب شاملة في المنطقة. ولأن جميع مكونات «محور المقاومة» تدرك يقينا، في تصور نصر الله، أن مصيرها واحد، وأن نجاح المحور الأمريكي الإسرائيلي في كسر إرادة، أو تصفية أي منها يعني حتما أن البقية ستلقى المصير نفسه، إن آجلا أو عاجلا، فمن الطبيعي أن ترتبط معا بنظام للأمن الجماعي، بصرف النظر عن وجود أو غياب إطار مؤسسي أو قانوني له. بعبارة أخرى يرى نصر الله أن زمن المواجهات الثنائية قد ولى، وأن أي محاولة لتغيير أوضاع أو موازين القوى القائمة على أي من ساحات المواجهة بين المحورين، لن تبقى محصورة داخل نطاقها الجغرافي الضيق، مثلما كان عليه الحال من قبل، وإنما ستقود على الأرجح إلى انفجار لمجمل الأوضاع في المنطقة، أي إلى حرب إقليمية شاملة.
ليس معنى ذلك أن كل صدام بالنيران تشهده أي من ساحات المواجهة المفتوحة بين المحورين سيتحول، بالضرورة وفورا، إلى حرب إقليمية شاملة، وإنما المقصود هنا أن أي عملية عسكرية كبيرة قد تقوم بها دول المحور الأمريكي الإسرائيلي، منفردة أو مجتمعة، وتستهدف من ورائها تغيير موازين القوى الاستراتيجية، على أي من ساحات الصراع المفتوحة مع محور المقاومة، كاجتياح قطاع غزة، أو توجيه ضربة عسكرية قوية إلى قواعد حزب الله، أو إلى المفاعلات النووية الإيرانية، أو التلاعب في صيغ التوازنات القائمة بين أطراف الصراعات المحتدمة في سوريا والعراق واليمن، ستواجه برد جماعي حاسم من جانب باقي المكونات، ومن ثم فقد تقود إلى حرب شاملة ومدمرة بين المحورين.
أخلص مما تقدم إلى أن خطاب نصر الله احتوى على تصور واضح تماما لطبيعة الصراع الدائر في المنطقة، ولكيفية التعامل معه، على النحو التالي:
يعود السبب الرئيسي وراء تفجر هذا الصراع إلى وجود مشروع إسرائيلي استيطاني توسعي، يسعى لاستكمال السيطرة على باقي الأراضي الفلسطينية، وطرد وتشريد شعبها، واحتلال أجزاء من أراضي الدول العربية المجاورة في سوريا ولبنان والأردن ومصر، بهدف إقامة دولة يهودية توراتية كبرى، تمتد من النيل إلى الفرات.
ما كان لهذا المشروع أن يصل إلى درجة التوحش التي هو عليها الآن لولا إلقاء الولايات المتحدة بثقلها الكامل وراءه، خاصة في ظل إدارة ترامب، التي لم تتردد في نقل السفارة الأمريكية إلى القدس، والاعتراف بالسيادة الإسرائيلية على الجولان، وها هي تستعد اليوم للاعتراف بحق إسرائيل في ضم المستوطنات اليهودية في الضفة إلغربية. معنى ذلك أن المشروع الاستيطاني التوسعي الذي يراد فرضه على المنطقة، هو مشروع أمريكي إسرائيلي مشترك.
يشكل هذا المشروع تهديدا مباشرا لا لفلسطين وشعبها فقط، وإنما لكل الدول والشعوب العربية والإسلامية، التي لم تعد تملك سوى مقاومته والتصدي له بكل الوسائل والسبل المتاحة، ولأن اللبنة الأولى في جدار الرفض ينبغي أن تغرسها حركات المقاومة الفلسطينية أولا، فمن الطبيعي ألا يكتمل البناء إلا بمشاركة ودعم كافة الأطراف الرافضة للهيمنة الأمريكية الاسرائيلية على المنطقة. ولأنه سبق لإيران أن طردت السفير الاسرائيلي من طهران، وسلمت السفارة الإسرائيلية إلى منظمة التحرير الفلسطينية فور نجاح الثورة الاسلامية عام 1979، وسبق لحزب الله أن نجح في تحرير جنوب لبنان عام 2000 من الاحتلال الاسرائيلي، بدون قيد أو شرط، ثم في إفشال العدوان الاسرائيلي عليه عام 2006، فمن الطبيعي أن تصبح إيران هي المؤهلة طبيعيا لقيادة محور المقاومة والتصدي للمشروع الأمريكي الاسرائيلي في المنطقة، وأن يصبح حزب الله هو العمود الفقري لهذا المحور.
وايا كان الأمر، فمن الواضح أن معظم النظم الحاكمة في العالم العربي لا تأخذ حزب الله على محمل الجد، وأن مختلف أذرعها الإعلامية تروج لمقولة إنه حزب شيعي تابع لإيران، ويسعى لبث الفتنة الطائفية بين صفوف المسلمين، فأمينه العام جزء لا يتجزأ من نظام ولاية الفقية، الذي تجسده وتقوده إيران، ومن ثم فلا يتمتع بأي إرادة مستقلة عن طهران. ومن الواضح أيضا أن معظم النظم الحاكمة في العالم العربي تروج في الوقت نفسه لمقولة، إن المقاومة التي يتشدق بها حزب الله ليست أمينة أو مخلصة، ولا تشكل نهجا أصيلا في تكوينه، وبالتالي فهي تعبير عن موقف تكتيكي أو «تقية» تستخدم للتعمية على الموقف الإيراني الحقيقي، الذي يحرص أشد الحرص على استخدام الورقة الفلسطينية أداة للمساومة حين تنضج الظروف للجلوس إلى طاولة المفاوضات مع كل من الولايات المتحدة وإسرائيل.
وبافتراض أن هذه الحجج أو بعضها صحيحة، أو تنطوي على قدر ولو ضئيل من الصحة، وهو ما لا أعتقده على أي حال، فهل هذا يبرر للنظم الحاكمة في العالم العربي تخليها الكامل عن القضية الفلسطينية، وعن حقوق الشعب الفلسطيني، وألا يعد تحالفها مع الولايات المتحدة وإسرائيل، بحجة التصدي لإيران التي باتت تشكل من وجهة نظرها مصدر التهديد الرئيسي لأمنها الوطني والقومي، اعترافا ضمنيا أو حتى صريحا بموقفهما الرسمي المتمثل في ضم القدس الموحدة واعتبارها عاصمتها أبدية لها، وفي ضم المستوطنات اليهودية المشيدة في الضفة الغربية والجولان السورية واعتبارها جزءا لا يتجزأ من دولة إسرائيل، وفي رفض إقامة دولة فلسطينية مستقلة، وفي عودة وتعويض اللاجئين الفلسطينيين؟ وإذا كانت النظم الحاكمة في العالم العربي تدعي أن موقف حزب الله من القضية الفلسطينية هو موقف مزيف وغير صادق، فلماذا لا تتخذ هي الموقف الحقيقي وتتولى بنفسها بالدفاع عن القضية الفلسطينية، وتطبيق القرارات التي اتخذتها في إطار الجامعة العربية؟
الأرجح أن هذه النظم تابعة لا تملك من إرادتها شيئا، ويعتبر موقفها المتخاذل من القضية الفلسطينية كاشفا لهذه التبعية، وليس منشئا لها، ويقوي من محور المقاومة، ولا يضعفه، وبالتالي يصب لصالح كل من إيران وحزب الله وليس العكس.