حافظ البرغوثي
لعله التاريخ يعيد نفسه في الموعد نفسه، ففي منتصف مثل هذا الشهر سنة 1929 قامت حركة بيتار الصهيونية بمحاولة السيطرة على حائط البراق، وحشدت اليهود في مسيرة نحو المسجد الأقصى في ذكرى ما يزعمونه عن خراب الهيكل وهم يهتفون: الحائط لنا. وفي اليوم التالي، وكان ذكرى المولد النبوي الشريف، تظاهر المقدسيون احتجاجاً على محاولة اليهود السيطرة على الحائط، وامتدت التظاهرات إلى بقية المدن الفلسطينية، حيث قمعت سلطات الاحتلال الانجليزي العرب، وحمت اليهود، وعصاباتهم.
وفي منتصف هذا الشهر، وفي ذكرى ما يسمى خراب الهيكل، حشدت منظمات الهيكل المزعوم اليهود ليس للسيطرة على الحائط - فهو تحت سيطرة الاحتلال منذ سنة 1967 - بل على المسجد الأقصى كله، وبالطبع هبّ المقدسيون للدفاع عن مقدساتهم وسط تحذيرات للاحتلال من أن سياسة المس بالمسجد ستؤدي إلى عودة العمليات الفردية التي انطلقت من القدس في سنة 2015 فيما سمّي بثورة السكاكين. وبعد اقتحام المسجد في الشهر الحالي تجددت العمليات الفردية، حيث قام شابان بخطف جندي وقتله، ربما بعد أن تعذر أسره، وفقاً للرواية الاحتلالية، ثم أقدم طفلان في الرابعة عشرة من العمر على طعن ضابط احتلالي في القدس، وأطلقت النار عليهما وتركا ينزفان حتى الموت، ثم أقدم شاب على دهس مستوطنين جنوب بيت لحم ما جعل سلطات الاحتلال تنشر المزيد من القوات والكاميرات في الضفة، تحسباً لعمليات أكبر في ظل الاعتداء المستمر على المسجد الأقصى، ومحاولة الاحتلال بلسان مسؤوليه تغيير الوضع القائم في المسجد، والسيطرة عليه، والسماح لليهود باقتحامه في أي وقت، والبقاء فيه، وإلغاء الوصاية الأردنية المتفق عليها منذ اتفاق وادي عربة.
وبعد ثورة البراق عاد الحاكم البريطاني من لندن، وحمّل الفلسطينيين مسؤولية الأحداث، وسماهم سفاكي دماء، لكن «لجنة شو» التي جاءت للتحقيق أكدت أن سبب الأحداث هم اليهود. وعزت اللجنة أسباب تصاعد التوتر في العلاقات بين العرب واليهود إلى تفاقم مشكلتي الهجرة والأراضي، أما في ما يتعلق بموضوع حائط البراق، فقد اعتبرت اللجنة أن البت في هذا الموضوع لا يدخل في دائرة صلاحياتها، وأوصت بأن تبت فيه لجنة أخرى مختصة في أسرع وقت.
وبالفعل، وبناء على توصيات «لجنة شو»، وافق مجلس عصبة الأمم في مطلع سنة 1930، على تشكيل لجنة تحقيق دولية للبت في النزاع حول ملكية حائط البراق، ووصلت هذه اللجنة إلى القدس، حيث استمعت إلى وجهات نظر الفريقين، وخلصت في تقريرها إلى أن حائط البراق هو أثر إسلامي، ومن أملاك إدارة الوقف الإسلامي، وإنه لا بد بالتالي من الحفاظ على الوضع الذي كان قائماً قبل اندلاع الهبّة، بحيث يسمح لليهود بزيارة الحائط، وإقامة صلواتهم بقربه فقط.
وحتى الآن، هناك غموض في مسألة الهيكل المزعوم، حيث لا يوجد توافق على مكانه حتى بين اليهود، وهناك من ينفي وجوده أصلاً، مثل عالم الآثار «الإسرائيلي» الشهير «إسرائيل فلنكشتاين» من جامعة «تل أبيب» الذي ينفي وجود أي صلة لليهود بالقدس، إذ أكد في تقرير نشرته مجلة جيروزاليم ريبورت «الإسرائيلية» في 2011 أن علماء الآثار اليهود لم يعثروا على شواهد تاريخية، أو أثرية تدعم بعض القصص الواردة في التوراة، وانتصار يوشع بن نون على كنعان، وقال فلنكشتاين: لقد تطور «الإسرائيليون» القدماء من الحضارة الكنعانية في العصر البرونزي المتأخر في المنطقة، أما في ما يتعلق بهيكل سليمان فلا يوجد أي شاهد أثري يدل على أنه كان موجوداً بالفعل.
وأيّد عدد من كبار علماء الآثار «الإسرائيليين» فلنكشتاين، حيث قال رافاييل جرينبرج، وهو محاضر بجامعة «تل أبيب» إنه كان من المفترض أن تجد «إسرائيل» شيئاً حال واصلت الحفر، غير أن «الإسرائيليين» فيما يسمى مدينة داود بحي سلوان بالقدس، يقومون بالحفر من دون توقف ولم يعثروا على شيء. واتفق البروفيسور يوني مزراحي، وهو عالم آثار مستقل، مع رأي فلنكشتاين، وقال إن «جمعية إلعاد» الاستيطانية لم تعثر حتى على لافتة مكتوب عليها «مرحباً بكم في قصر داود»، برغم أن الموقف كان محسوماً لديهم في ذلك الشأن، كما لو أنهم يعتمدون على نصوص مقدسة لإرشادهم في عملهم. فالأثريون اليهود ينفون وجود الهيكل، وغيره، ولجان التحقيق الدولية التي شكلت لاحقاً أيام الانتداب البريطاني بعد لجنة عصبة الأمم أكدت ملكية الأوقاف الإسلامية للمسجد والحائط، ومع ذلك ما زال أصحاب الأساطير الوهمية يحاولون فرض وقائع في المسجد بالقوة، وهو ما سيؤدي إلى موجة من العنف لا سابق لها، مثلما حدث في ثورة البراق.