يواصل الثلاثي الأمريكي: كوشنير وجرينبلات وفريدمان تضليل العالم، عرباً و«عجماً»، تجاه المضامين السياسية لما يسمونه خطة إدارة رئيسهم ترامب ل«تحقيق السلام في الشرق الأوسط». ففي كلمة له، الأسبوع الماضي، أمام مؤتمر صحيفة «جيروزاليم بوست»، أيد جرينبلات أقوال فريدمان حول (حق «إسرائيل» في ضم أجزاء من الضفة الغربية، وعدم حاجة العالم لدولة فلسطينية فاشلة)، وحدد نوفمبر/تشرين الثاني المُقبل موعداً للإعلان عمّا سماه «الشق السياسي» لهذه الخطة، وكأن القرارات الأمريكية بشأن: (اللاجئين و القدس والدولة والمستوطنات والحدود)، ليست خطة سياسية لإنهاء الصراع العربي- «الإسرائيلي»؛ عبر تصفية جوهره: القضية الفلسطينية، ولشطب جميع القرارات الدولية ذات الصلة بهذا الصراع؟ وفي تغريدة له على «تويتر» اتهم المذكور حركة «فتح» ب«التخريب» بالقول: «فتح تُفشل فرصة أخرى للتعايش وما يجب أن يكون أمراً طبيعياً.. لا يمكن بناء السلام على قاعدة أسستها فتح.. ومن أجل تحقيق السلام يجب تسوية القضايا العديدة، ويجب تشجيع التعايش». هذا علماً أن القضايا المقصودة هي القضايا التي حسمت القرارات الأمريكية أمرها لمصلحة «إسرائيل»، من دون نسيان أن الحديث يدور عمّا يُسمى «قضايا المرحلة النهائية» ل«أوسلو»؛ وأن المقصود ب«التعايش» هو التعايش مع الاحتلال.
والسؤال، هنا: ماذا يعني أن تحاول الولايات المتحدة، برئاسة ترامب، إسدال الستار على قضية تمثل جوهرَ صراعٍ عمره ما يقارب القرن ويزيد من الزمان؛ بل وتُعدُّ أعدل قضية وطنية وإنسانية معاصرة؟ هذا يعني أننا إزاء النتائج المرة لتسليم رقبة القضية الفلسطينية للولايات المتحدة، الأمر الذي أفضى، فيما أفضى، إلى تراجع الكثير من أوجه الدعم القومي والدولي الذي حظيت به هذه القضية في مرحلة ما قبل «أوسلو». وهو التراجع الذي أغوى إدارة ترامب، وشجعها على التغول لدرجة أن ترفع منسوب الانحياز الأمريكي المعهود، إنما المموه، لمواقف «إسرائيل» من «قضايا المرحلة النهائية»، إلى حدود الإعلان الصريح عن التبني الكامل لمواقف الأخيرة؛ بل ولمواقف أشد حكوماتها تطرفاً، وأكثرها تعلقاً بالخرافات التلمودية حول (أرض «إسرائيل» اليهودية الكبرى)، وبالسرديات الأيديولوجية «فوق التاريخية»؛ وأبرزها: أن ما لا يتحقق بالقوة يتحقق بالمزيد من القوة، وأن كل ما يُفرض على الأرض يُعترف به في نهاية المطاف.
لذلك، وبما أن هذا التغول الأمريكي لم يسقط من السماء؛ بل هو حصيلة الانخراط الفعلي لمنظمة التحرير الفلسطينية في مشروع التسوية الأمريكي، مع كل ما تخلل ذلك من تكييف للمشروع الوطني، والحقوق الوطنية والتاريخية الفلسطينية مع مطالب الراعي الأمريكي لمفاوضات «مدريد أوسلو»، فإن أول متطلبات المواجهة السياسية مع «خطة ترامب»، إنما يتمثل في إعادة بناء المشروع الوطني الفلسطيني، بدءاً بتصويب الخلل البنيوي الذي حدث، بتدرج، في بنية منظمة التحرير، وقاد، في نهاية المطاف، إلى الرهانات الفاشلة والمُدمرة على الولايات المتحدة كراعٍ لهذه المفاوضات العقيمة.
لكن، وطالما أن مراجعة وطنية جادة ومسؤولة لمسيرة مسار «مدريد أوسلو» لم تحصل، رغم مرور نحو 18 شهراً على القرار الأمريكي بشأن القدس، عدا القرارات اللاحقة المتعلقة ب«نقل السفارة»، وبوكالة «الأونروا» واللاجئين، وبمكتب بعثة منظمة التحرير في واشنطن، فإن المسؤولية تقتضي تجميع الصف الوطني، ميدانياً، وعلى أساس الإجماع الوطني على رفض مؤامرة «صفقة القرن». أما تحريك النار ما بين حركتي «فتح» و«حماس» من انقسام «سلطوي»، فمهلكة ما بعدها مهلكة في محطة مصيرية، تفرض على كل وطني حريص، ومهما كان انتماؤه الفكري والسياسي والحزبي، الدفع، قولاً وفعلاً، وأولاً وقبل أي شيء آخر، نحو أن يتخندق الفلسطينيون، في الوطن والشتات؛ لمواجهة وإحباط هذه الهجمة الأمريكية «الإسرائيلية» المسعورة التي تستهدف تصفية القضية والحقوق والنضالات والإنجازات والرواية الوطنية الفلسطينية، بالمعنى الشامل والوجودي للكلمة؛ لكن هذا التجميع للصف الوطني في إطار الحد الأدنى الممكن حتى الآن ينبغي ألا يكون غطاء لتهرب قيادتي «فتح» و«حماس»، من مسؤوليتيهما تجاه التعجيل في طي صفحة انقسامهما المُدمر، ولا لتهرب قيادة منظمة التحرير من مسؤوليتها تجاه دعوة الفصائل إلى حوار وطني شامل لمراجعة مرحلة «أوسلو»، بناء على ما قاله التاريخ فيها.