Menu
فلسطين - غزة °-18 °-18
تردد القناة 10873 v
بنر أعلى الأخبار

من أجل استعادة "لا" فلسطينية كبيرة.. دعوة لتأسيس إجماع جديد

350.jpg

خلدون محمد

هناك اليوم فرصة كبيرة لاستعادة الـ"لا" الفلسطينية الكبيرة، خاصة مع مآلات الفشل المدوي لاتفاق أوسلو ولخط التسوية، رغم قيام جمع من الخراصين وممارسي العبث السياسي بالترويج لخيارات عرقوبية تسعى لملء فراغ ما بعد أوسلو، مثل طرح "الدولة الواحدة" أو حتى "الدولة الديمقراطية" وغيرها، وذلك إمعانا في إسقاط وإبعاد خيار الفلسطينيين الطبيعي، والذي شكل قاعدة انطلاق للحركة الوطنية الفلسطينية المعاصرة ألا وهو "التحرير".

نعتقد أن استعادة تلك الـ"لا" الكبيرة هو أمر ممكن، وتجتمع لها اليوم عناصر تؤهلها كي تعود سيرتها الأولى، وذلك إذا ما قام جهد فلسطيني ذو برنامج نضالي مقاوم مهمته تأسيس إجماع فلسطيني جديد، يعيد الاعتبار لمنطلقات الوطنية الفلسطينية المتوارثة.

ونتذكر هنا أن المعالجات والمحاججات التي استخدمت في بداية الانخراط في مسار التسوية، منذ أيام "البرنامج المرحلي"، كانت تقر بأن "برنامج التحرير" والميثاق الوطني هو الأصل، وأن ما تمت إضافته هو مجرد ألفاظ تؤكد هذا المعنى من مثل "سلطة وطنية مقاتلة"، وجاء في النقطة العاشرة من ذلك البرنامج وضعه ضمن "تكتيكات" الثورة، أي أن الأصل احتفظ بـ"أصلانيته"، وأن الطارئ هو اجتهاد قابل للاختبار. ولكن مع صيرورة هذا النهج التسووي، أصبح ما كان "اجتهادا" هو الأصل، أما ما كان أصلا فنعت مرة بـ"المتقادم" أو بـ"الارهاب". وكانت الخاتمة أن أهيل عليه التراب رسميا في مجالات صورية عقدت لهذا الغرض في تسعينيات القرن الماضي. وأصبح يشار إلى المتمسكين بالأصل من قبل "المتحولين فكريا وقيميا" بأنهم حالمون تهويميون، كما اتهم برنامجهم الأصلاني والطبيعي من قبل الممسوخين فكريا بأنه "برنامج حزبي" مغلق وضيّق وغير واقعي! ولقد جادل مثقفو وسياسيو "أوسلو" بأن لديهم مانع من فكرة "تحرير فلسطين"، وأنهم بكل سرور يتخلون عن أماكن ولادتهم، ويُطمئنون العدو بأنهم لن يغرقوه بملايين اللاجئين ويضمنون له استقراره في الأرض المسروقة!

في هذا التيه الأوسلوي، وجدنا بعض القيادات الأوسلوية (خاصة من أعضاء لجنة فتح المركزية) يجادلون بأن تنظيماتهم لم تعترف بإسرائيل، وأن الاعتراف الذي قُدم كان باسم المنظمة وليس باسم التنظيمات. المشكلة في هذه اللغة المتحايلة الفهلوية أنها تريد أن تقول إن المنظمة مبتوتة الصلة بالتنظيمات، وإذا كان الأمر كذلك فعلا، فمن تمثل هذه المنظمة إذن؟ والغريب أن هذا المنطق استخدم بعد فوز حركة حماس في انتخابات 2006 للقول إن المنظمة هي التي تتولى التفاوض مع العدو (الذي ترفضه حماس وفازت نتيجة رفضها ذاك)، وذلك على سبيل رفع الحرج والتحايل على المعطيات الجديدة، والمشكلة في هكذا منطق هو ما قيمة البرامج السياسية التي لا يسعى أصحابها إلى ترجمتها ومقاربة الوقائع لها؟ هل المسألة مسألة تمسك بشكليات لفظية؟ وهنا، وفي مرحلة التأسيس لوطنية فلسطينية، يجدر أن تؤسس "أمانة عامة" للقوى الفلسطينية التي تشترك في الرؤية الأصلية التي تتمسك بالمبادئ الأساسية للميثاق الفلسطيني، والتي سنضاف لها صياغات مرجعية إسلامية كانت غائبة عند كتابة الميثاق الوطني، فضلا عن خلاصات فشل تجارب التسوية التي أعادت البرهنة والتأكيد على صوابية خيار "التحرير".

ونقترح هنا أن تقوم هذه الأمانة العامة، وفي سعيها لسحب التنازلات التي قدمت في أوسلو (في غفلة من الزمن)، بحشد رأي عام فلسطيني مسنود بعقد سياسي جديد ينضم إليه كل من رغب بالمشاركة في هذه الوطنية الفلسطينية الثانية. وهنا، وفيما يتعلق بإشهار الـ"لا" الكبيرة وإعادة الاعتبار لها، ندعو إلى جعل مسألة سحب الاعتراف بالعدو الصهيوني الذي سبق وأن منحه شخص اسمه ياسر عرفات باسم الشعب الفلسطيني يوم 9 أيلول/ سبتمبر 1993، مسألة مركزية يترتب على الموقف منها التقاء أو افتراق السياسات والبرامج. ومن أجل ذلك ندعو إلى:

1-صياغة وثيقة وطنية تسحب ذلك الاعتراف، على أن تقوم التنظيمات التي تعتنق برنامج التحرير، بوضع توقيعاتها عليها. وإذا ما زعمت قوة سياسية أنها لا تعترف حقا بالعدو، فلتأت ولتمهر توقيعها، خاصة حركة فتح التي كررت هذا الموقف مرارا وتكرارا في مناكفاتها الإعلامية بأن لجنتها المركزية لا تعترف بإسرائيل. حسنا، فلتأت ولتصدق على هذا الموقف، وإلا ليظهر موقفها الحقيقي المعزول.

2- من نافل القول أن تنضم لهذه الوثيقة جميع الهيئات والمؤسسات الأهلية والمدنية بالإضافة إلى الشخصيات الوطنية والأكاديمية وممثلي التجمعات الفلسطينية.. كما يمكن أن ينفتح التوقيع لعموم أفراد الشعب الفلسطيني في جميع أماكن تواجده، فيعكس هذا الإجماع الأقوى لانطلاقة وطنية فلسطينية ثانية جديدة ومتجددة.

3- هناك قوى سياسية فلسطينية أساسية ومؤثرة لم تتخل في أطروحتها العامة عن المبادئ الوطنية الأساسية، فلم تخن الجرأة حركة حماس أن تعلن في موقف علني قوي بأنها "لن تعترف بإسرائيل"، وقد تم شنّ ثلاث حروب عليها؛ كان هدفها السياسي محاولة انتزاع الاعتراف والقبول بالعدو لإلحاقها أسوة بباقي المعترفين. غير أن هذا الوقف الأصلي والجوهري كانت تعتوره جوانب نقص، وبدا في بعض الظروف التي حددت فيها مواقف ملتبسة، وكأنه مجرد إعلان ميكروفوني، وهذا لا يقلل من قيمته "الميكروفونية"، خاصة وأنه يأتي في أجواء معاكسة ورياح عاتية. وفي اعتقادنا كان يلزم هذا الإعلان العلني ترجمات في السياسة من مثل:

أ- يحتار المرء عندما يلاحظ طيلة السنوات الـ13 الماضية، منذ انتخابات 2006، لماذا لم تسعَ حركة حماس، وهي المهيمنة عدديا ومعها حلفاء آخرون في المجلس التشريعي، إلى استصدار قانون أو وثيقة تسحب فيه رسميا وباسم الممثلين الحقيقيين للجزء من الشعب الفلسطيني الذي له ممثلون منتخبون، وذلك الاعتراف الذي تم منحه ذات يوم في أيلول/ سبتمبر 1993، خاصة إذا ما فهمنا أن هذه القضية تشكل قضية سياسية مركزية في طرح حركة حماس، وفي الوعي الفلسطين العام، ومن المفترض أن لا يتم تبني تكتيكات تصطدم معها.

ب- كما يحتار المرء بأن هذه القضية كانت خارج النقاش الوطني بعد 2006، ووجدنا أن المعالجات والحلول الوسط بين حماس ومنافستها فتح كانت تتخطى هذه المسألة على أهميتها وحيويتها، لا بل وجدنا المقاربات تميل إلى مراعاة اعتبارات السلطة وخطها التسووي الذي برهن مساره عن فشل مستحكم، في حين أن حماس أظهرت ورعا مبالغا فيه في تجنب جر فتح إلى مربعها الذي يرفض الاعتراف بالعدو. وفي اعتقادنا أن المراوحة في هذه الوضعية وعدم الوضوح (ولا أريد أن أقول الحسم) السياسي هو ما يمد في عمر التشرذم والتبلد السياسي. وكما تحتاج المقاومة إلى البسالة والإبداع وتطوير وسائلها وتكتيكاتها المقاوماتية، تحتاج أيضا إلى نفاذ البصيرة وموقف سياسي صحيح يكافئ ذلك الإبداع وتلك البسالة.

إن غزة التي تمثل منذ ما بعد انتفاضة الأقصى باروميتر الوطنية الفلسطينية والتي تعكس الحيوية والعنفوان، وبنت للفلسطينيين جدارا يتترسون خلفه، تحتاج من كل المخلصين وأصحاب الفكر أن يرعوها بأفكارهم واقتراحاتهم كي تملك الجرعة اللازمة لإخراج البؤس الفلسطيني من شرنقته الأوسلوية، فمنها الآن تخرج أهم "لا" فلسطينية حارة وعميقة وأصيلة.