طلال عوكل
لا يكفّ السفير الأميركي الجنسية والإسرائيلي الانتماء والهوية والسياسة، عن تقديم المزيد من المؤشرات على التوجهات السياسية للإدارة الأميركية المتصهينة التي يقودها دونالد ترامب، يكشف ديفيد فريدمان، عن طبيعة وأصل المخطط الصهيوني الاستيطاني، ويعبر عن ذلك سلوكاً وثقافة، وانتماءً للمستوطنين ومكان السكن، ولكن مصدر الخطورة فيما يصرح به من قناعات لا يعود إلى البعد الشخصي، بقدر ما أنه يعبر عن رأي وموقف الإدارة والبلاد التي يمثلها.
حين يغرد فريدمان السفير، بحق إسرائيل في ضمّ أراضٍ من الضفة الغربية، فإنه لا يحرض أحداً على ذلك، ذلك أنه يعلم ما تخطط له الإدارة الإسرائيلية، وما يمكن أن توافق عليه الإدارة الأميركية، وربما ما تتضمنه "صفقة القرن" التي لم يتم الإعلان عن تفاصيلها حتى الآن.
التصريح الذي أدلى به ممثل الإدارة الأميركية، والمجتمع الاستيطاني في إسرائيل، كان يمكن وفق الأعراف الدبلوماسية، والصلاحيات التي تمنح في العادة للسفراء، بأن تتم معاقبته، أو فصله، أو نقله من موقعه، لو كان ما يدلي به، يتعارض مع سياسة بلاده.
موضوع الاستيطان، وضمّ الأراضي، يتعارضان كليا في العام وفي التفاصيل مع قرارات الأمم المتحدة، ومع السياسة العامة للمجتمع الدولي، ويتعارضان مع القانون الدولي، وأيضاً ينسفان، أي مبادرة نحو تحقيق السلام، حتى قبل أن تبدأ.
الولايات المتحدة أصدرت مواقف تعتبر الاستيطان أمراً واقعاً منذ أيام الرئيس السابق جورج بوش الابن، وقد تضمنت وثيقة الضمانات الأميركية، التي صاغها شارون، وترجمت إلى الإنكليزية، تضمنت نصاً من هذا النوع.
الإدارة الحالية ذهبت إلى أبعد من ذلك إذ أسقطت صفة المحتلة عن الأراضي التي تحتلها إسرائيل منذ العام 1967، وتوقفت عن إصدار أي نقد للمخططات الاستيطانية، وبالتالي تخلت عن الموقف التقليدي النظري للولايات المتحدة بشأن هذا الملف.
إذا كان الأمر على هذا النحو، فإن من غير المنطقي أن يتبارى المسؤولون الفلسطينيون، وكلهم، أو القسم الأكبر منهم، فتح النار على فريدمان، وبعض التصريحات ذهبت إلى حد النية لمقاضاته من قبل المحكمة الجنائية الدولية.
ثمة إسراف في التصريحات الجزافية، وإطلاق تهديدات لا معنى لها، بسبب صعوبة تنفيذها، أو حتى محاولة الشروع العملي في تنفيذها.
يستحق فريدمان أكثر من الإدانة والاستنكار وحتى الشتم، لكن من يستحق ذلك في الأساس، هو الإدارة الأميركية، التي يشكل فريدمان أحد أبرز أعضاء فريقها المنسجم في تبنيه لسياسة معادية وعدوانية للشعب الفلسطيني وحقوقه، وأيضاً للحقوق العربية.
ما قاله وما يمكن أن يقوله لاحقاً السفير المستوطن ديفيد فريدمان، لا يضيف جديداً على ما هو معروف من قبل الفلسطينيين إزاء طبيعة وتوجهات وحقائق السياسة الأميركية، التي اتخذ منها الفلسطينيون كل الفلسطينيين موقفاً شجاعاً. الفلسطينيون يسجلون للتاريخ وللعالم أجمع أنهم أكثر شجاعة وجرأة في مواجهة السياسة العدوانية التي تديرها، أعظم قوة حتى الآن على سطح الكرة الأرضية.
من يجرؤ من العرب وغير العرب، أن يقف على قمة جبل المكبر، لكي يعلن بأعلى صوته، أنه في مواجهة مع سياسة الظلم والعدوان التي تمثلها الولايات المتحدة؟
قبل الفلسطينيين كان كاسترو، وكان شافيز وربما آخرون قد أعلنوا مواقف وسياسات جريئة وقالوا أكثر من لا كبيرة في وجه الطغيان الأميركي، ما يرفع الشك عن مدى صلابة الفلسطينيين في التمسك بحقوقهم.
ممنوع على أي فلسطيني أن يعود ويستخدم عبارات التشكيك في مواقف القيادات السياسية إزاء الحقوق الفلسطينية، فالمرونة، واتباع تكتيكات ودهاليز العمل السياسي لا تعني أن ثمة من يمكنه أن يتحمل أمام التاريخ والشعب، خطيئة التنازل عن أي من الحقوق الفلسطينية.
على أن هذا الموقف الوطني الفلسطيني القاطع والجامع والشامل، لا يخول أحداً، للغلو في وصف واقع الحال، والادعاء أن الفلسطينيين أفشلوا "صفقة القرن"، أو أن "الصفقة" قد وقعت على الأرض، دون أن يقوى طرف على رفعها.
الحقيقة أن الفلسطينيين، أفشلوا "صفقة القرن"، لكنهم لم ينجحوا حتى الآن في إفشال المخطط الأميركي الإسرائيلي.
السبب في ذلك هو أن رفض الفلسطينيين لما صدر من مواقف نظرية وعملية عن الإدارة الأميركية، قد أسقط عنها صفة الصفقة. الصفقة تتم بين طرفين أو أكثر، لكن رفض الفلسطينيين للتعاطي معها، حولها إلى مخطط وأفقدها صفة الصفقة.
لا يزال الفلسطينيون في خضمّ المواجهة الشرسة مع المخطط الأميركي الإسرائيلي الذي بدأ بموضوع القدس، ثم اللاجئين، ثم العلاقة مع السلطة ومنظمة التحرير، ثم موضوع السلام الاقتصادي، الذي يرتبط به جوهرياً مؤتمر البحرين.
الولايات المتحدة لا تنتظر موافقة الفلسطينيين حتى تمضي قُدُماً في تصفية الحقوق الفلسطينية، وتمكين إسرائيل من تحقيق كل طموحاتها وأهدافها التوسعية وذلك من خلال الخطوات أحادية الجانب، وفرض الوقائع على الأرض.
إزاء ذلك كيف لنا أن ندعي إفشال "صفقة القرن" إلاّ إذا كان الأمر يتعلق بالتصرف اللغوي؟ الطريق طويل طويل أمام إمكانية إفشال المخطط الأميركي الإسرائيلي، ويفترض من الفلسطينيين أن يغيروا سلوكهم العملي تجاه أوضاعهم الداخلية، وأن يغيروا سلوكهم تجاه المسهّلين والداعمين والمتواطئين من العرب وغير العرب مع هذه المخططات. غير أن البداية تكون بإعلان العداء الصريح للسياسة الأميركية ووضعها إلى جانب إسرائيل.