إبراهيم شعبان أكثر ما يؤرق ويقض المضاجع في موضوع فوز ترامب بانتخابات الرئاسة الأمريكية غير المتوقع، ليس موقفه من روسيا، أو حلف شمال الأطلسي، أو المكسيك ومهاجروها والجدارالمقترح معها، أو إيران وإمكانية التراجع عن معاهدته معها، أو الجزيرة العربية وسياساتها عبر قبائلها الحاكمة،
وإنما أثر ذلك الفوز على القضية الفلسطينية بعامة، وبقضية القدس والمستوطنات بخاصة. ذلك أن الرجل تسود أفكاره ضبابية مقلقة قد تغدو متفجرة في وقت من الأوقات. ليس هذا هروباً من أزمات العالم الطاحنة وإنما خوفاً وقلقاً على حق الفلسطينيين في تقرير المصير في زمن تراجع فيه القانون الدولي العام، وحقوق الإنسان، ومنظومته ومبادئه، واختفى فيه التضامن العربي وحل فيه الإقتتال العربي وسفك الدم العربي.
هذا الخوف والقلق لا ينبع من اعتبارات عاطفية أو شخصية، فسواء كلينتون وترامب لا يلبّيا الحد الأدنى من الحق الفلسطيني، وبالتالي هما يتساويا في قضايا كثيرة، فالمفاضلة بينهما عسيرة وغير مجدية. وطيلة فترة إعداد الإنتخابات الأمريكية كانا يستجديا الصوت اليهودي في أمريكا ويقدما الطاعة والولاء لإيباك ويتسابقا في دعم اليهود. فالحزب الديمقراطي والحزب الجمهوري بعيدان عن بعضهما في قضايا كثيرة ما عدا الموضوع الفلسطيني، فكلاهما نصير قوي لإسرائيل وإن اختلفت درجة المناصرة. فرأينا نكسون وبيكر الجمهوريان يتفقا نسبياً مع أوباما الديموقراطي وكارتر الديموقراطي في الموضوع الإسرائيلي، رغم اختلافهما مع الحكومة الإسرائيلية فقد اختلف الأول مع شامير واختلف الثاني مع نتنياهو.
موضوعان حيويان يشكلا لبّ القضية الفلسطينية بل هما عمادها، وترامب قد يتهور في الموضوعين أو أحدهما، مع أن السياسة الأمريكية لا يبنيها شخص واحد بل المؤسسات الأمريكية مع عدم التقليل من أثر الرئيس. وبعد ذلك يأتي السؤال الجوهري: كيف سينصرف الأثر الأمريكي على الدول الأوروبية التي ليس لها سياسة مستقلة عن أمريكا وإن حاولت. وما مصير دول العالم التي تنتظر إشارة من الولايات المتحدة وفي تقديري أن بعضها خجولة ولا تجرؤ على اتخاذ الخطوة الأولى.
الموضوع الأول هو مدينة القدس العربية إلى الأبد المحتلة مؤقتا، والسعي الإسرائيلي الدائم لنفي الضم عنها، وإبعاد شبح الشرعية الدولية عنها وجعلها عاصمة "إسرائيل" وبخاصة رغم قرار التدويل رقم 181 في عام 1947، وما تبعه من قرارات ترفض الضم الإسرائيلي وتعتبره باطلاً ولاغياً. بكلام آخر، الخشية الحقيقية لا تكمن في قبول إدارة ترامب الموقف الإسرائيلي من مدينة القدس العربية، بل ان تتخذ الإجراءات العملية التي رفضت الإدارات الأمريكية المتعاقبة اتخاذها، ألا وهي نقل السفارة الأمريكية فعلياً من "تل أبيب" إلى القدس سواء الغربية أو الشرقية. وهو أمر قد يحدث، حينها حتماً ستتلوها دول كثيرة وتنقل سفاراتها إلى القدس. حينها ستغدو القدس التي لا يوجد بها سفارة واحدة لدولة أجنبية هذه الأيام تعج بالسفارات الأجنبية في القدس رغم ضمها غير الشرعي.
قد يقول البعض أن هذا الكلام أقرب للخيال الجامح أو إفراط في الخيال دفعاً ومنعاً لأي رد فعل عقلاني وترحيباً بالردود العاطفية الغيبية القبلية. وقليل من التذكير لا يضر، ألم تنقل القنصلية الأمريكية إلى حي الأرنونا في غربي القدس في بناية متعدد الطبقات وكان انتقالاً سلساً بدون ضجيج ولا تعليق من أحد وكأن الأمر لا يعني أحداً أو كأن أبا الهول فرض نفسه فآثر جميع المعنيين الصمت.
تدور شائعات هذه الأيام أن بلدية القدس رخصت للقنصلية الأمريكية لبناء أكثر من طابق جديد على ذات بناء القنصلية في حي الأرنونا. بل تدور شائعات أن الأمريكيين اشتروا أراض كثيرة تكفي لإقامة أكثر من سفارة قريبة من القنصلية بمبالغ فلكية. وفي ذات الوقت يجب أن لا ننسى أن الكونجرس الأمريكي اتخذ قراراً بنقل السفارة الأمريكية لمدينة القدس في عام 1995. ومنذ ذلك التاريخ يقوم الرؤساء الأمريكيون بتأجيل تنفيذ هذا القرار كل ستة أشهر عملا بالأمن العام الأمريكي. فماذا لو جاء ترمب وفاجأ الجميع، وقرر أن يضع هذا القرار موضع التنفيذ، وأن لا يعبأ بتهديدات رياض منصور ممثل فلسطين في الأمم المتحدة.
الموضوع الثاني الذي يجب أن يؤرق كل فلسطيني هو موضوع المستوطنات التي غزت جميع الأراضي الفلسطينية من خاصة وعامة. المستوطنات التي يراها بعض الأمريكيين أعمالاً طلائعية مشابهة لاستيلائهم على أراضي الهنود الحمر. لذا لا غرابة أن نرى اعترافاً أمريكياً بالإستيطان الإسرائيلي في الضفة الغربية بل إكسابه شرعية دولية ويضربون عرض الحائط بجميع نصوص اتفاقيتي جنيف ولاهاي والقانون الدولي الإنساني وباختصاص المحكمة الجنائية الدولية التي تحظر الإستيطان بجميع أنواعه كافة. لذا لا غرابة ان تحاول الإدارة الأمريكية الجديدة بإدارة ترامب إلغاء جميع قرارات مجلس الأمن الخاصة بالإستيطان الإسرائيلي أو تقديم قرار جديد ينفي الأول والآخر. الساحة الدولية والأممية اختلفت جذرياً عن مرحلة السبعينيات والثمانينيات وكل من له عينان يستطيع التأكد من ذلك. بل إن الوقت الحالي مليء بالصعوبات التصويتية فكثير من الدول التي كانت تؤيد القضية الفلسطينية غدت أقرب إلى "إسرائيل" مثل الهند واليونان.
إغراق في الخيال الذي يخلقه انتخاب ترامب وفي تداعياته، ليس مستبعداً أن يوافق على طرح اليمين الإسرائيلي لضم منطقة "جيم" والتي تبلغ مساحتها ثلثي مساحة الضفة الغربية. فماذا يبقى بعد ذلك وبخاصة أن الكونغرس الأمريكي أقر بضم القدس للسيادة الإسرائيلية. وماذا يبقى من "حلم الدولتين" أو اي كيان مستقل بل اين الأراضي التي ستمارس عليها السيادة الفلسطينية؟!
يجب أن لا تعقد الدهشة ألسننا، فنحن نعيش في زمن أغبر أسود رديء تماماً مشابه لزمن المسلمين أيام حكم أمراء الطوائف حيث يتحالف الأمير مع عدو أخيه. فنحن نحيا في زمن سقطت وضربت فيه جميع المنظومات وتراجعت القيم والمبادئ وحلت القوة المسلحة محل الحق والعدل.
كان آيزنهاور جمهورياً وأمر "إسرائيل" بالإنسحاب من مصر وقطاع غزة بعد العدوان الثلاثي، وكان نيكسون جمهورياً واصطدم مع شامير ورفض إعطاءه قروض أمريكية في عام 1990. وكان أوباما ديموقراطيا واصطدم مع نتنياهو في الموضوع الإيراني، لكنه لم يستطع ان يحرك ساكناً مع السياسة الإسرائيلية وإن حاول زعزعتها. يصعب التنبؤ، رغم أن تباشير التعيينات لترامب تشير إلى توجههه يميناً. لا مجال للقول أن الجمهوريين أقرب للإسرائيليين ولا العكس صحيح. وقد يفاجىء ترامب كل المتشائمين والمتفائلين معاً.
المهم والأهم بناء القوة الذاتية الفلسطينية عبر توحيد الممزق والمفرق، والإعداد لما هو قادم فكل الملفات مفتوحة وليس هناك غيبيات. وفي ملف القدس والمستوطنات كثير من النقاط القانونية الإيجابية لصالح القضية الفلسطينية. ومن نظر في العواقب سلم من النوائب..!
* الكاتب المحامي إبراهيم شعبان/
محاضر في القانون في جامعة القدس ورئيس مجلس الإسكان الفلسطيني.