سيف الدين عبد الفتاح
يهل علينا شهر رمضان الكريم، ويبدأ كل شخص منا بتبادل التهاني مع أهله وأصحابه وأقرانه.. كنت وأنا أهمّ بذلك؛ أستمع إلى أنباء خطيرة لاستهداف إسرائيل لأهل غزة وهم على أعتاب رمضان. أعرف أن فرحة أهل غزة بهذا الشهر الفضيل له من الطقوس الخاصة التي يتميزون بها، وكأن الكيان الصهيوني يستهدف أي فرحة لغزة وأهلها، على الرغم مما يحيط بهم من حصار شديد وحياة معيشية لا يتحملها بشر.
أهل غزة أهل عزة وصمود.. هكذا نتعلم منهم في كل شأن، وفي كل آن يقدمون صورة ذلك الصمود في كل أحوالهم، بل إننا نفخر بشعب غزة وعزتهم حينما يخرج شبابه كل جمعة في مسيرات العودة الممتدة، والتي أقضّت مضاجع العدو، وشكلت بحق إرهاصا لملحمة القرن في مواجهة صفقة القرن.
أهل غزة يقاومون كل أشكال الانبطاح والاستسلام والتطبيع التي تنتشر في جنبات العالم العربي، للأسف الشديد، من زعماء ليسوا بزعماء، ومن نخب ليست بالنخب، فإذا أردت أن تطلق على أي من ينتمون لهذه الأمة اسم النخبة، فلن تجد بحق نخبة إلا نخبة أهل غزة الذين يشكلون ويمثلون انتدابا للأمة في مواجهة كيان صهيوني مغتصب، يعلّمون الناس دروس الكرامة وملامح العزة وصنوف المقاومة.. نرفع بفضل أعمالهم الرؤوس، وبفضل صمودهم تفيض منابع العزة فينا، فتدرك أن هذه الأمة رغم هذا الظلام الدامس المحيط لا زالت ثلة تمتل المقاومة وتدافع عن الحق. فهؤلاء الذين يتنعمون بحياة مترفة وبأنوار ساطعة؛ لا يعيشون في عزة أهل غزة الذين يقيمون في ظلام دامس معظم أيامهم.
جاءني ذلك الشعور بالعادة الصهيونية بالعكنة على أهل غزة، بالقيام بغاراتهم المعهودة التي تتوالى في الزمان والمكان، فتوقفت عما أنا فيه بكتابة التهنئة بالشهر الفضيل لأتابع الأخبار. وللأسف الشديد، لا حيلة لنا إلا متابعة الأخبار. رأيت إعلاما في هذه الدول الموصوفة بالعربية شديد الانحطاط يتحدث عن المسلسلات وعن احتفالات بقدوم شهر رمضان، باستخفاف بعقول الناس. ودق الكيان الصهيوني طبول حربه عالية، لكنها لم تلفت انتباه أحد من هؤلاء، لا من زعماء مزعومون، ولا هؤلاء الذين يتلهون بمتابعة البرامج والمسلسلات؛ وكأن هذا الضجيج المفتعل الذي يبعث على الغثيان هو الذي يغطي على طبول حرب الصهاينة على أهل غزة.. هنا شعرت بالعجز الكبير؛ كيف أن دخول رمضان الذي ينتظره الجميع إذا به يفتتح بغارات واسعة ومستمرة..
هكذا يفعل هؤلاء الصهاينة بأهل غزة في كل مرة، ولا نسمع حتى مما يعتادون على إصداره من شجب واستنكار؛ استكثروه على أهل غزة، وتغافلوا عن تلك المشاهد، بينما تهافتوا على أتفه الأحداث ومشاهدها، فيترامى إلى الأسماع أقوال من هنا وهناك؛ من عبيد التطبيع، لا ينتقدون عدوان الصهاينة أكثر من انتقادهم لصواريخ أهل غزة، حتى أنني طالعت إشارة في واحدة من المقولات التي كتبت على وسائل التواصل تحيلنا إلى كم كان من الممكن أن تغطي هذه النقود المدفوعة في هذه الصواريخ لتطعم مساكين أهل غزة! ألا أيها المسكين أهل غزة العزة ليسوا بالمساكين، إنما أنت المسكين الفاقد لكل كرامة، والممتهن لأي عزة والأليف لكل ذل، فإنك لا تعرف معنى المقاومة والصمود، وتتحدث عن إطعام المساكين! أيها المسكين لا تعرف أن هؤلاء الذين انتدبوا أنفسهم ليحملوا عزة هذه الأمة ليسوا أبدا بالمساكين حتى لو جاعوا أو حوصروا، ولكن المسكين المفلس من لا يعرف معنى العزة والكرامة، من فقد كل صمود ومقاومة، من ألف عيش الذل والانبطاح والاستسلام.
سأوافيك بكلمات من شاب من أهل غزة كتب من الكلام ما لا يقل تأثيرا وقيمة عن صواريخ المقاومة والقسام، كتب كلاما يفيض بالعزة، فطفقت بالفور أبحث عن وسيلة للاتصال به ونجحت في ذلك؛ أطلب منه أن تكون كلماته درة هذه المقالة في التعبير عن أهل غزة العزة.. وجدتها كلمات دامغة لهؤلاء من صهاينة العرب تصفعهم جميعا وتصفع هؤلاء الزعماء المزعومين الذين سكتوا وغفلوا أو تغافلوا، وتصفع حتى هؤلاء الذين يخطون بأناملهم أنباء عن صفقة القرن وعن صفقات الذل، ولم نسمع منهم تعقيبا. مات الحق عندهم، وماتت الكرامة فيهم، وماتت العزة وتجمدت في عروقهم. صار هؤلاء لا يجيدون إلا لغة الذل، فلا يعرفون لكلمات المقاومة مكانة، ولا لمفردات العزة مقاما، ولا لألوان الصمود معنى.
اعتدنا منهم أن يتوسلوا ويهرولوا وينبطحوا، ولكننا اعتدنا من جانب آخر من أهل غزة؛ القيام بكل فعل مقاوم يواجهون به هذا الغرور الصهيوني وغاراته بطائراته، فيطلقون صواريخهم فيقضون مضاجعهم، ويهرول بعض من صمت من زعماء أو تغافل مطالبين بوقف إطلاق النار أو تفعيل التهدئة التي طفقوا يذكّرون بها، بل إنهم لم يقولوا حتى كلمة عن استهداف أهل غزة ومدنييها، بل من المؤسف حقا أن يتحدث بعضهم مثل دول الغرب المنافقة عن استهداف المدنيين من الصهاينة.
هنا فقط التفتوا إلى طبول الحرب التي دقت من أجل إنقاذ أهل صهيون، وكأن أهل غزة العزة لا يستأهلون بعضا من استنكارهم، ولكنها حال بغيضة تراكمت من الصهاينة والمتصهينة؛ حالة من الغرور لا سقف لها من الصهاينة، وحالة من الانبطاح والذل إلى الحضيض لا قاع لها. واستطاع أهل غزة العزة بصواريخهم أن يفرضوا على إسرائيل أن تتراجع وتطلب التهدئة، فما كان من أهل غزة العزة إلا رفض الشروط ووضع الحدود.
هذا حديث أحد شباب غزة الأقوياء:
"أعتقد أن هذا اليوم بنهاره وليلته من أشد الأيام بأسا وأطولها زمنا وأشرسها عزما وأعتاها فعلا وأحدها نصلا وأعمقها مدى، منذ سنوات طويلة مضت من تاريخ غزة.
منذ صباح اليوم، وباطن أرض غزة ينفجر نارا وحمما، ويرد القصف بالقصف والصاروخ بعشر أمثاله، دون أي لحظة توقف أو التقاط أنفاس أو تفكير بالتراجع أو التردد أكثر من 12 ساعة متواصلة، وهذه البقعة المسماة "غزة" تصفع وجه إسرائيل، تعاند وتناطح وحدها، وتغرز أظافرها وأنيابها عميقا على امتداد حدود الأرض المحتلة، من بئر السبع والقدس إلى أسدود وعسقلان ويافا الكبرى.
وفي أثناء كتابة هذه السطور، صواريخ غزة تقرع صفارات الإنذار في جنوب تل أبيب وضواحيها، في ذات الوقت الذي لا تزال أعمدة الدخان وألسنة اللهب تتصاعد من ركام وأنقاض 3 عمارات سكنية متعددة الطوابق، حوّلها القصف إلى تلال من رماد الأسمنت والحجارة.
اللهم بك نصول وبك نجول وبك نقاتل..
وأتى الصباح
صباح الخير يا غزة.. صباح الخير يا بلد
صباح رائحة البارود والنار التي تملأ الجو، وتنحسر منهزمة أمام فواح مناقيش الزعتر والزيت المنبعثة من جوانب فرن طيني، أو طنجرة خبز كهربائية تطيب بها أم - لم تغف عيونها طوال الليل - خاطر أطفالها وتشد بها أزرهم.
صباح يشرق من لقاءات أهل الحي واجتماع مجالسهم من جديد، بعد سهرة طويلة حتى مطلع الفجر، على أصوات القصف والرشقات، تحفهم أباريق الشاي بالنعنع، تعلو من جديد أصواتهم بأحاديث وتحليلات وآراء ونقاشات، تقاطعها أصوات مذياع تعلو بين الحين والآخر تتلو خبرا عاجلا..
صباح جديد وهذه المدينة العنيدة تفرض وجودها، وتنتزع حقها بالحياة غصبا عن العالم أجمع.
صباح جديد وهذا الشعب الأصيل الطيب، يعاند الموت ويصارع المستحيل ويتحدى الأهوال.
ألا مرحى بعزتكم، ألا نعمت صنوف صمودكم. أهل غزة العزة يعطون درسا للعالم كله أن صفقة القرن ليست قدرا مقدورا وليست حتما مقضيا، وأن أصحاب القضية يملكون القدرة على خوض معارك العزة والصمود والكرامة ليسطّروا ملحمة قرن في مواجهة صفقة قرن".