بقلم:د. محمد السعيد إدريس
لم يكن توقيت انطلاق مسيرات العودة، مع الذكرى السنوية ل «يوم الأرض» الفلسطيني (30 آذار من كل عام)، اختياراً عفوياً، بل كان تأكيداً لوحدة الهدف بين الحدثين. فذكرى «يوم الأرض» هي ذكرى تجديد العهد سنوياً من كل فلسطيني بالتوحد مع أرضه وترابها في فلسطين، والتوحد هنا ليس له غير معنى واحد وهو العودة إلى الوطن المحتل وفرض السيادة الوطنية الفلسطينية عليه، وعدم التفريط في حبة تراب واحدة من أرض هذا الوطن، طال الزمن أم قصر. وبالمعنى ذاته كان انطلاق مسيرات العودة في هذا اليوم (30 آذار) من العام الماضي. انطلقت المسيرات كل جمعة، وتوجه الآلاف نحو السياج الحدودي، وحاولوا اقتحامه والعبور نحو الوطن القابع خلف هذا السياج.
كان الاندفاع نحو السياج الحدودي الفاصل بين قطاع غزة والوطن الذي احتل عام 1948 إعلاناً صارخاً بأن العودة هي الهدف، وأن هذا الوطن القابع خلف السياج هو وطن كل فلسطيني.
لكن في يوم الجمعة الفائت، ذكرى مرور عام على إطلاق مسيرات العودة، جاء المشهد مختلفاً ومثيراً، إذ إن قوات الأمن التابعة لحركة «حماس» (قوات السلطة الغزاوية) هي التي وقفت حائلاً دون وصول الفلسطينيين إلى السياج الحدودي.
انتشر أفراد تلك القوات التي ارتدى أصحابها بزات برتقالية في خطين، واحد على بُعد 500 متر من السياج، والآخر على بُعد 200 متر، والدافع هو وجود قرار من (السلطة الغزاوية) «سلطة حماس» بمنع المتظاهرين من الاقتراب من السياج الحدودي.
هذا القرار جاء استجابة لطلب إسرائيلي نقله الوسطاء المصريون ضمن مطالب إسرائيلية أخرى تتضمن: الحفاظ على سلمية مسيرات العودة، وضبط النفس، ووقف أية هجمات منطلقة من قطاع غزة، بما في ذلك البالونات الحارقة، ووقف عمليات الإرباك الليلي، ومنع المتظاهرين من الوصول إلى السياج الحدودي. هذه الطلبات الإسرائيلية جاءت شروطاً لتحسين ظروف الحصار المفروض على القطاع، ضمن المسعى إلى فكه وإنهائه، ومن هنا جاء العرض الإسرائيلي الذي نقله الوسطاء المصريون متضمناً وعوداً وجدولاً زمنياً لتنفيذ اتفاق تم التوصل إليه «لتحقيق التهدئة التي تقود إلى هدنة وفك الحصار»، ويشمل توسيع مساحة الصيد البحري من 9 أميال إلى 12 ميلاً بحرياً ثم إلى 15 ميلاً باستثناء منطقة واحدة، ورفع الحظر عن 80 منتجاً ممنوعاً حالياً من دخول غزة بحجة «الاستخدام المزدوج»، وإجراء مباحثات من أجل إنشاء مناطق صناعية، وزيادة عدد الشاحنات المسموح بدخولها إلى القطاع عبر معبر كرم أبو سالم من 800 إلى 1200 شاحنة، وتحويل الأموال من دون تأخير، واستمرار إدخال الوقود، وزيادة الإمدادات، والسماح بمشاريع بنى تحتية.
الإفصاح عن هذه العروض المتضمنة في «التفاهمات» جاء قبيل إحياء الذكرى الأولى لمسيرات العودة المرتبطة بالذكرى السنوية ليوم الأرض، وكان عنوانها الأبرز هو «المحافظة على الهدوء على السياج الحدودي»، حسب ما أعلن خليل الحيّة نائب رئيس حركة «حماس» في كلمته التي ألقاها في مخيم العودة القريب من الحدود مع إسرائيل، وقال «نحن نختبر الاحتلال حتى يلتزم أمام إرادة شعبنا، وسنبقى نطارده حتى تحقيق المطالب، نحن نريد إنهاء الحصار، وقد حققت مسيرات العودة بعض هذه الأهداف».
هكذا تم استبدال الأهداف التي انطلقت من أجلها مسيرات العودة، وهكذا يخطط لاحتوائها ابتداءً من تهدئة تقود إلى إلغائها. بدلاً من الالتزام بهدف «العودة» الذي يربط بين يوم الأرض وبين هذه المسيرات، حيث يُجرى توظيف المسيرات لتحقيق هدف آخر هو «إنهاء الحصار» وكأن هدف إنهاء الحصار أضحى هدفاً يغني عن ترسيخ هدف العودة والعمل من أجله. هنا نستطيع القول إن الذي حقق أهدافه هو الاحتلال الذي بتصعيده للحصار نجح في فرض الانصياع على الحركة الشعبية الفلسطينية، وإذعان سلطة الحكم «الغزاوية» لمطالب الاحتلال، وليس، كما يعتقد خليل الحيّة، أن مسيرات العودة هي التي نجحت في تحقيق بعض أهدافها.
هذا الانحراف بالأهداف، شديد الخطورة، وهذا حدث بعد أن حدث الانحراف، بالمكون الأساسي لمسيرات العودة، فقد انطلقت هذه المسيرات بمبادرات شعبية من منظمات المجتمع المدني في قطاع غزة تحت قيادة ما عُرف باسم «اللجنة التنسيقية العليا لمسيرات العودة»، لكن بعد النجاح الهائل الذي تحقق، دخلت الفصائل إلى قيادة المسيرات، وفي مقدمتها حركة «حماس»، وتحولت قيادة المسيرات إلى «قيادة فصائلية» حملت اسم «الهيئة العليا لمسيرات العودة». تحولت قيادة المسيرات إلى «قيادة فصائلية» حملت معها كل منافسات وصراعات «الفصائل»، وانتهى الأمر بسيطرة حركة «حماس» على المسيرات، ومن ثم توظيفها لأداء أدوار، قد تكون مهمة، بل ومهمة جداً، مثل «إنهاء الحصار» المفروض على قطاع غزة، لكنه، مهما كانت أهميته، يبقى هدفاً تكتيكياً، كان يجب ألا يكون أبداً على حساب الهدف الاستراتيجي وهو حق العودة.