قبل قيام إسرائيل، وبعد 66 عاماً على قيامها، انتهج قادة الحركة الصهيونية ترحيل شعب فلسطين منها، وتهجير اليهود إليها، واستيطانهم فيها، وتهويدهم لها، سبيلاً لجعلها "يهودية بقدر ما هي إنكلترا إنكليزية"، كهدف أساس للمشروع الصهيوني.
ففي العام 1919 قال حاييم وايزمان، رئيس المنظمة الصهيونية العالمية، أمام الاتحاد الصهيوني الإنكليزي: "عندما أقول وطناً قومياً يهودياً فإنني أعني خلق أوضاع تسمح لنا، بأن يدخل إليه العدد الوفير من المهاجرين اليهود، وأن نقيم في نهاية الأمر مجتمعاً في فلسطين بحيث تصبح فلسطين يهودية كما هي إنكلترا إنكليزية أو أميركا أميركية".
وفي العام الجاري، 2014، دعا نتنياهو رئيس حكومة المستوطنين إلى "تجديد القيم الصهيونية" بسن قانون أساسي "يحصن اعتبار إسرائيل دولة لشعب واحد هو الشعب اليهودي" و"يصون صلته التاريخية بأرضه" و"يحفظ حقه في الهجرة إليها".
ما يعني أن قادة الحركة الصهيونية، من هيرتزل حتى نتنياهو، خططوا لإقامة "وطن قومي لليهود" "على كامل مساحة فلسطين"، وليس "في فلسطين"، و"لكل اليهود"، وليس لمن تم جلبه منهم قسراً إلى فلسطين فقط. لقد استدعى قادة الحركة الصهيونية "وعداً إلهياً" تلمودياً خرافياً لتنفيذ "وعد دنيوي" استعماري، هو "وعد بلفور" الذي أعطى ما لا يملك لمن لا يستحق لحل "المسألة اليهودية" على حساب من لا علاقة له بها، بنص ملتبس حمال أوجه يخترع لطائفة دينية يتوزع المنتسبين لها، ككل طائفة دينية، على "مواطنة" متعددة القوميات، مكانة شعب يستحق دولة، بينما يعيد مكانة شعب قائم وحدت "المواطنة" مكوناته إلى وضعية طوائف تستحق التمتع بـ"حقوق مدنية ودينية" ليس إلا.
ولا عجب في أن يرتكب "وعد بلفور" كوعد استعماري مكتمل الأركان، كل هذا القلب التاريخي لمفهوم "المواطنة" الحديث بعد قرون على نشوئه، بنص يقول: "إن حكومة صاحب الجلالة تنظر بعين العطف إلى إقامة وطن قومي في فلسطين للشعب اليهودي، وستبذل غاية جهدها لتسهيل تحقيق هذه الغاية، على أن يفهم جلياً أنه لن يؤتى بعمل من شأنه أن ينتقص من الحقوق المدنية والدينية التي تتمتع بها الطوائف غير اليهودية المقيمة في فلسطين، ولا الحقوق أو الوضع السياسي الذي يتمتع به اليهود في أي بلد آخر".
وبالمثل لا عجب في أن يحمِّل العالم شعب فلسطين مسؤولية المجزرة النازية ضد اليهود التي لا علاقة له بها من قريب أو بعيد، حيث استغلها الغرب لتنفيذ وعده الاستعماري للحركة الصهيونية بقرار دولي ظالم، تواطأ معه العالم، وقضى بتقسيم فلسطين إلى قسمين: تقام على الأول، (56.47%)، "دولة يهودية"، وتقام على الثاني، (42.88%)، "دولة عربية"، ووضع القدس، (0.65%)، تحت إدارة دولية.
بل لا عجب في أن يقف العالم عاجزاً أمام توسعية وعدوانية إسرائيل التي مدت بالقوة الغاشمة، وبرعاية الغرب الاستعماري إياه، سيطرتها على 78% من مساحة فلسطين، ثم على كامل مساحة فلسطين، وأجزاء من أراضي دول عربية أخرى مجاورة، علماً أن قرار الاعتراف بإسرائيل عضواً في هيئة الأمم في 11 أيار 1949، قضى: "بوجوب التزام إسرائيل بحدودها المقرة في قرار التقسيم، وبتنفيذ التزامها الخاص بحق اللاجئين في العودة"، وفقاً للقرار الدولي 194.
على أية حال، بعد 66 عاماً على النكبة: بداية تنفيذ المخطط الصهيوني المعد سلفاً لـ"التطهير العرقي في فلسطين"، كما برهن- بالوثائق والأدلة القاطعة - مؤرخون كثر، منهم "المؤرخون الإسرائيليون الجدد"، وأشجعهم، بلا منازع، المؤرخ إيلان بابيه، نجح قادة الحركة الصهيونية، برعاية غربية استعمارية ورثت الولايات المتحدة عن بريطانيا قيادتها منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، في تمكين يهود إسرائيل من تملُّك، واستغلال، والسيطرة على نحو 85% من مساحة أرض فلسطين، حسب تقرير الاحصاء الرسمي الفلسطيني للعام الماضي.
لكن هذا النجاح الذي لا شك فيه، لم يغلق باب سؤال مأزق المشروع الصهيوني المفتوح، ليس فقط لسبب أن الشعب العربي الفلسطيني لم يستسلم وما انفك يقاوم متشبثاً بحقوقه وأهدافه الوطنية والتاريخية، إنما أيضاً للأسباب - الحقائق - التالية:
1: عدد الشعب الفلسطيني اليوم، حسب أحدث احصاء رسمي للسلطة الفلسطينية، 12 مليون نسمة، أي ما يقل قليلاً عن عدد اليهود في العالم. هذا بينما يعلم قادة إسرائيل قبل غيرهم، وأكثر من غيرهم، أن زمن جلب موجات الهجرة اليهودية الكبيرة الكثيفة إلى فلسطين قد ولى لأسباب عدة، أهمها: أن مخزون اليهود العرب قد نضب، وأن الوجود الأساسي لليهود في العالم يتكدس في الولايات المتحدة وبلدان أوروبا الغربية، وأن جلهم على الأقل ليس في وارد التخلي عن مواطنته والهجرة بكثافة إلى إسرائيل، فيما تتجه أنظار من تبقى من يهود أوروبا الشرقية إلى الهجرة إلى الولايات المتحدة وأوروبا الغربية، وليس إلى إسرائيل، وفي أقله أكثر ما هي إلى إسرائيل.
إذا نحن في قادم السنين سنكون أمام حقيقة تساوي عدد الفلسطينيين مع عدد اليهود في فلسطين حتى من دون احتساب عدد اللاجئين الفلسطينيين الذين أسقطوا بتشبهم بحق العودة إلى ديارهم الأصلية، وبرفض كل مؤامرات ومشاريع التوطين، الحسبة الصهيونية الخائبة القائمة على أوهام "الكبار يموتون والصغار ينسون"، بعد أن بددوا بكفاحهم الوطني الممتد جيلاً بعد جيل، أكبر كذبة في التاريخ: "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض"، ثم وقاحة "لا وجود لشعب فلسطيني....أنا فلسطينية" كما قالت جولدا مائير في زمانها، لتموت مكبودة من زلزال حرب العام 1973 بعد أن بكى بين يديها رمز الحرب الأسطوري، وزير دفاعها، ديان، متمتماً: "إنه الخراب الثالث للهيكل"، لتسقط بذلك أساطير أيديولوجيا "الجيش الذي لا يقهر"، و"تميز العرق"، التي ما زال المغروران نتنياهو ويعالون، ومعهما البلطجي ليبرمان والمأفون بينت، يتمسكون بأهدابها الواهية، بينما تخلى عن اعتمادها أساساً لبناء السياسة والحرب كل من المتبجح باراك والبلدوزر شارون، الأول عندما قرر في العام 2000 فرار جيشه تحت جنح الظلام من لبنان، والثاني عندما قرر في العام 2005 فك الارتباط العسكري والاستيطاني مع غزة، وإن من طرف واحد، فيما كان سبقهما إلى ذلك رابين الذي تبجح ووعد كوزير للدفاع بـ"إنهاء أعمال الشغب"، أي انتفاضة 1987 الكبرى، خلال أيام، ليقول بعد ذلك: "ليتني أصحو يوماً وأجد غزة قد التهمها البحر"، و"يجب إخراج الجيش الإسرائيلي من عش الدبابير في جباليا ونابلس القديمة".
2: عدد سكان إسرائيل، حسب أحدث احصاء رسمي إسرائيلي، 8.2 مليون نسمة، نسبة الفلسطينيين منهم 21%، أي أكثر من مليون ونصف المليون، دون أن ننسى أن هؤلاء إنما يشكلون حجر الزاوية في بناء المشروع الوطني الفلسطيني النقيض لحلم المشروع الصهيوني في جعل فلسطين "يهودية كما هي إنكلترا إنكليزية".
وهو الحلم - الوهم - الذي لن يفضي التشبث به إلا إلى دولة غالبية سكانها من غير اليهود الأمر الذي يخشاه قادة إسرائيل أكثر من خشيتهم من الطاعون، أما عنصريتها التي تفوق عنصرية جنوب أفريقيا تحت نظام الأبرتهايد البائد، فأمر لا يأبه له نتنياهو وبقية صحبه في حكومة المستوطنين، كما لم يأبه له أي من قادة إسرائيل التي - ولدت منذ البدء - عنصرية عدوانية توسعية، كدولة لجيش أنشأها، بعد أن تم اختراع شعبها وأرضها، كما برهن - بجرأة يُحسد عليها - البروفسور الإسرائيلي شلومو ساند في كتابين جديريْن بالقراءة والاقتناء.
عليه يجوز القول: "إدامة نكبتنا تديم سؤالهم المفتوح". أما لماذا؟ لأنه، بعد 66 عاماً على النكبة الممتدة في حياة الشعب العربي الفلسطيني، ورغم ما حققه قادة المشروع الصهيوني خلالها من نجاحات على الأرض، ورغم ما ارتكبوه خلالها من عمليات تطهير عرقي مخطط وجرائم حرب موصوفة قل نظيرها في العصر الحديث، إلا أن الحلم الصهيوني بانتزاع الاعتراف بإسرائيل دولة "يهودية كما هي إنكلترا إنكليزية" قد فشل بالمعنى السياسي للكلمة، ولن ينتشله من فشله تأييد إدارة أوباما مؤخراً لـ" يهودية دولة إسرائيل"، بل إن اعلان هذا التأييد، ومثله إعلان نتنياهو العزم على سن قانون أساسي يحصن إسرائيل كـ"الدولة اليهودية للشعب اليهودي"، إنما يعيد الصراع إلى مربعه الأول، ويعطي الشعب الفلسطيني سلاحاً فكرياً وسياسياً وأخلاقياً إستراتيجياً يجعل العالم أكثر تفهماً له إن هو تخلى عن مطلبه بـ"حل وسط" للصراع، بعد أن صار ظهره للحائط، وفقد كل خيار غير خيار القول: "نحن وإياكم والزمن طويل".