في كل مرة، تناقش "إسرائيل" بمستوياتها السياسية والأمنية والبرلمانية، ميزانية الدولة العبرية، تبرز "ميزانية الدفاع" كمشكلة تتداولها وسائل الإعلام في إطار حرب مفتوحة بين وزير الحرب الإسرائيلي ووزير المالية، حدث هذا في الماضي، ويحدث، أيضاً، هذه الأيام،
حيث بدأ الجدل واسع النطاق بعدما أصرّت وزارة المالية على تقليص ميزانية وزارة الدفاع الإسرائيلية في وقت تطالب فيه هذه الوزارة بزيادة 2 مليار شيكل بدلاً من التقليص الذي من شأنه، حسب القيادات الأمنية والعسكرية إلغاء برامج التدريب للقوات الجوية والبرية، وأن الوزارة قد أقدمت على تقليصات، بالفعل عندما فصلت ألف جندي نظامي في إطار مخطط لفصل 3500 جندي آخر خلال العام الجاري، مع وقف أحد الأسراب الجوية و6 ألوية مدرعة وكتيبتي مدفعية وكتيبتين لوجستيتين، بينما قوات الاحتياط لا تجري أية تدريبات على الإطلاق، وباختصار فإن القيادات الأمنية والعسكرية، التي نشرت هذه المعلومات على الملأ وفي وسائل الإعلام، على غير العادة، تحاول أن تؤثر على الرأي العام للضغط على وزير المالية ورئيس الحكومة، ليس لإلغاء التقليص في الميزانية فحسب، بل إلى زيادتها بمقدار ملياري شيكل على الأقل.
استطلاعات الرأي تشير إلى أن الجمهور الإسرائيلي، يؤيد في الغالب قرار وزارة المالية، وتبرر تحليلات أصحاب الرأي موقف الرأي العام هذا، أن "إسرائيل" باتت أقلّ عرضة لأية أخطار، نظراً لتطورات الأوضاع عند الجيران على اختلاف توجهاتهم، المنشغلين بأوضاعهم الداخلية بعد تدمير قواهم العسكرية، بينما الميزانيات التي اعتمدت للجيش، كانت في ظل ظروف كانت "إسرائيل" مهددة وجودياً بالأخطار، على عكس ما هو الأمر عليه!!
عدد من الدراسات الأمنية الإسرائيلية والتي تم تسريبها عبر وسائل الإعلام أحياناً، ومن خلال مراكز البحث أحياناً أخرى، أشارت إلى أن "إسرائيل" بصدد إجراء تعديلات جوهرية على العقيدة الأمنية العسكرية بالتوازي مع جملة المتغيرات الهامة في المنطقة، وجوهر هذه التعديلات تنطلق من انحسار التهديدات الوجودية للدولة العبرية على ضوء انهيار الجيوش العربية بسبب الربيع العربي، وخاصة في الجبهة الشرقية، العراق وسورية تحديداً، وكذلك، انشغال الجيش المصري، الذي كان يشكل الخطر الأكبر على وجود "إسرائيل"، بالأوضاع الداخلية الشائكة والمعقدة.
لكن ذلك غير كاف في الواقع لإجراء تعديلات جوهرية في العقيدة الأمنية الإسرائيلية بالنظر إلى وجود مخاطر ليس عبر الجيوش، ولكن عبر التشكيلات العسكرية غير الرسمية كحزب الله وحركة حماس وحركة الجهاد تحديداً، لذلك أشارت الدراسات إلى أن المبرر الحقيقي وراء مثل هذا التعديل يعود إلى المتغيرات على القدرات التقنية الحديثة، والمتغير الأساسي في ساحة العمليات والسيطرة، الأمر الذي يفرض جيشاً أصغر لكنه أذكى، كما وصف الأمر رئيس هيئة الأركان، وهذا يستدعي على النطاق العملي ما يسمى "بالاحلال والإبدال" ليس في الأسلحة القديمة واستبدالها بأسلحة حديثة فحسب، بل احلال وإبدال في العقلية العسكرية وخطط الحرب وسيناريوهاتها وأدواتها الحديثة، وعلى سبيل المثال، فإن السيطرة التقليدية على ساحة المعركة، كان يفترض بالضرورة سيطرة من خلال المشاة في نهاية الأمر، بعد السيطرة الجوية والمدفعية، في الوقت الراهن، ليس بالضرورة أن تتم السيطرة على الميدان من خلال قوات المشاة، بل يمكن السيطرة عن بعد وإخضاع "العدو" من دون مخاطرة بوجود جيش على الأرض، "إسرائيل" تسيطر فعلياً على مناطق شاسعة في جنوب لبنان، عن بعد، وكذلك فإن حدودها مع قطاع غزة، مسيطر عليها عن بعد تقريباً من دون التدخل برياً إلاّ في أوقات وظروف محددة، التقنيات العسكرية الحديثة توفر مثل هذه السيطرة بفعالية عالية، من دون المخاطرة بالجنود على الأرض.
ما أشارت إليه "وزارة الدفاع الإسرائيلية" من أنها لجأت إلى تقليص عديد قواتها، لا يعود أساساً إلى تقليص الميزانية بقدر ما يعود إلى تعديلات جوهرية في عقيدتها العسكرية والأمنية، وحتى لو لم تكن هناك تقليصات في الميزانية، فإن الاستغناء عن عدد كبير من الجنود سيظل ساري المفعول، خاصة وأن الدراسات المشار إليها، دعت إلى الاستغناء عن التجنيد الإجباري، وبناء جيش صغير محترف، ويبدو أن السنوات القادمة ربما تشهد مثل هذا التغيير الذي ينطوي على انقلاب حقيقي في عقيدة "إسرائيل" العسكرية الأمنية.
واستثمر قادة الجيش الإسرائيلي، فشل العملية التفاوضية على الملف الفلسطيني ـ الإسرائيلي، للتحذير من انطلاق انتفاضة فلسطينية ثالثة، الأمر الذي يحتّم زيادة الميزانية العسكرية للتعاطي مع مثل هذا الأمر، لكن بعض أصحاب الرأي أشار على أن هذا الأمر بات مستبعداً، خاصة وأن رد الفعل الإسرائيلي في حال انطلاق مثل هذه الانتفاضة، لن يواجه هذه المرة عبر الجيش والأمن، بل عبر قوى وتشكيلات استيطانية عسكرية وشبه عسكرية على غرار "تدفيع الثمن" والتي يتم التركيز عليها والقيام يومياً بمناورات بإسناد من العسكرتاريا الإسرائيلية وبالتغاضي عنها عبر القضاء الإسرائيلي.
مع ذلك، فإن هذه الدولة التي هي عبارة عن "جيش له دولة" قد تحظى بإقرار زيادة ميزانية الحرب، بعدما يعود نتنياهو من اليابان، ويكسر كل المعطيات المشار إليها لأسباب انتخابية حزبية!