حسن البراري
كشفت التطورات الأخيرة في المنطقة ما كنا نعرفه عن اتصالات إسرائيلية نوعية مع عدد من الدول العربية، وهي اتصالات تجعل من إسرائيل دولة مطمئنة وواثقة وهي تستفرد بالملف الفلسطيني وتحاول فرض أمر واقع على الفلسطينيين الذين يعانون من انكشاف استراتيجي زادت حدته مع الربيع العربي.
عندما تقدم العرب بمبادرة السلام العربية بعد أشهر قليلة من أحداث الحادي عشر من سبتمبر كانت الفكرة الأساسية التي تداولها النظام العربي الرسمي آنذاك تدور حول حزمة
(package) من المقايضات تعترف بموجبها الدول العربية بإسرائيل وتقبل بالتطبيع معها مقابل إقامة دولة فلسطينية مستقلة على أساس خط الرابع من حزيران وإيجاد حل عادل ومتفق عليه لمشكلة اللاجئين.
وعلى الرغم من هذا العرض العربي السخيّ ضربت إسرائيل بعرض الحائط هذه المبادرة وأعلنت حينها عن عملية السور الواقي والتي قامت بموجبها بإعادة احتلال عدد من المناطق الفلسطينية، فإسرائيل لم تكن مستعدة للبحث في مبادرة في وقت اعتقدت الحكومة الإسرائيلية فيه أن الإدارة الأميركية أصبحت تضع حرب شارون ضد الفلسطينيين وضد عملية السلام في سياق الحرب الكونية ضد الإرهاب. وبالفعل قامت إسرائيل بفرض حصار على الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات ولم يجد هذا الحصار ردة الفعل اللازمة التي ترفع من كلفته، وعليه استفادت إسرائيل مما كانت تقوم به.
للأسف، لم يرتق الجانب العربي لمستوى الحدث، فالأنظمة العربية وإن وافقت على مبادرة السلام إلا انها تقارب الموضوع الفلسطيني بشكل عام بأولويات مختلفة وأحيانا متضاربة. فلم يرغب العرب متابعة المبادرة وكأن لسان حالهم يقول "إنّا هاهنا قاعدون". من جانبها كانت الحكومة الإسرائيلية تعرف ذلك جيدا الأمر الذي مكنها من المناورة وبالتالي دفن المبادرة دون أن يكون لذلك أي ثمن تدفعه في علاقاتها مع بعض الأنظمة العربية. فمثلا، لم تجر الدول العربية مراجعات حقيقية لعلاقاتها مع إسرائيل، وعلى العكس من ذلك تمكنت إسرائيل من تعميق علاقاتها مع عدد من الأنظمة العربية وتمكنت من خلق وهم باعته مفاده بإن تل أبيب ستكون في خندق واحد مع بعض الأنظمة السنية للتصدي للتهديد الإيراني.
وبعيدا عن لغة الاتهام يمكن القول بأن عددا من الأنظمة العربية لا تمانع من التنسيق والتعامل مع إسرائيل قبل أن يتم حل القضية الفلسطينية بشكل يستجيب للحد الأدنى من المطالب المشروعة للشعب الفلسطيني. والحق أن الدول العربية بشكل عام لا تتفق على تحديد مصدر التهديد الرئيسي الذي يتهددها، ففي الأردن مثلا ما تزال السياسات الإسرائيلية التي تستهدف حل الدولتين هي مصدر التهديد الرئيسي الذي لا يوازيه أي تهديد آخر، غير أن هناك دولا عربية أخرى ربما تتعامل مع التهديد الإسرائيلي كأحد التحديات لكنه ليس التهديد الرئيسي بالنسبة لها.
وعلى نحو لافت، تدرك إسرائيل جيدا المشهد العربي وهي تتصرف وفقا لفهمها لهذا المشهد ما مكنها من تحقيق اختراقات في المنطقة، وما الزيارات العلنية لبعض العواصم العربية أو العلاقات السرية التي تجريها مع أنظمة أخرى إلا قمة جبل الجليد ما يعني أن هناك أمورا كثيرة ربما لا نعرف عنها وقد يكشف عنها لاحقا. هذا التطبيع العلني والتنسيق السري لا يتسق مع الموقف العربي الجمعي الذي يطالب إسرائيل بالانسحاب إلى خط الرابع من حزيران، فإسرائيل لا تشعر أبدا بأن العرب جادون في مطالبهم بإقامة دولة فلسطينية على أساس حدود العام 1967 ما يعني أن رفض إسرائيل للمطالب الفلسطينية لن تكون له كلف وأثمان تدفعها إسرائيل في علاقاتها مع الدول العربية.