بقلم: المحامي زياد أبو زياد
من خلال متابعة النقاش الذي يدور على إحدى مجموعات التواصل الإجتماعي في القدس، والتي تُعتبر مرآة للوضع العام في المدينة، يمكن إدراك حجم حالة التيه والإحساس بالخيبة والضياع في هذه المدينة نتيجة ما مر بها من تطورات منذ توقيع إعلان مبادىء أوسلو ثم اتفاقية القاهرة التي أدت الى قيام السلطة الفلسطينية عام 1994.
وقبل التوسع في الحديث أود أن أشير الى أن هناك عددا كبيرا من مجموعات التواصل الإجتماعي بالقدس التي يختص بعضها في مجالات معينة من مجالات الحياة في المدينة أو في مجالات متعددة ، ولكن الذي يميز هذه المجموعة هو أنها تضم أكثر من مائة وستين عضوا ً غالبيتهم العظمى من المثقفين والمفكرين والمهنيين والنشطاء السياسيين ونشطاء المجتمع المدني ومن بين هؤلاء محامون وأطباء ورجال أعمال وكتاب وأدباء وأساتذة جامعات وأعضاء مجلس تشريعي حاليين وسابقين ومعظمهم من المستقلين الذين لا يخضعون لقيود حركية أو مصالح مع أية جهة، وتضم أعضاء من الجنسين وبالتالي تشكل شريحة هامة لا بد من الإصغاء لصوتها لأنها تمثل وبحق نبض الشارع المقدسي.
وأقول وبكل أمانة أن من بين أعضاء هذه المجموعة العديد من الكفاءات الشابة التي تملك من الكفاءة والقدرة ما يدعو للإنبهار ولكنها لم تأخذ نصيبها في المشاركة باتخاذ القرار في أكثر الأمور حيوية بالنسبة للقدس لأسباب مرتبطة بعدم انفتاحهم على المجتمع المقدسي الحقيقي بأطيافه وطاقاته وإمكانياته المختلفة. وأجزم بأنه لو كان بالإمكان الاستفادة من مثل هذه الطاقات الشابة في القدس لكان الأمر مختلفا ً تماماً.
وإذ أقول هذا فإنني لا أقصد، لا سمح الله، التقليل من أهمية أحد ممن هم في مواقع المسؤولية ولكنني أؤكد أهمية إتاحة المجال للوجوه الشابة المتعلمة المثقفة التي تزخر بها القدس والتي تتعفف عن عرض نفسها على أحد من المسؤولين صناع القرار ولا تقبل تملق أحد أو سعي الى مكسب شخصي. فالبحث عنها والوصول إليها هو واجب أي مسؤول يعنيه أمر المدينة ويريد أن يستفيد مما فيها من كنوز بشرية.
لقد كانت القدس وحتى قيام السلطة الفلسطينية عام 1994 هي بؤرة النشاط الوطني والسياسي منذ الأيام الأولى للإحتلال حيث تم توسيع الهيئة الإسلامية العليا آنذاك لتضم عددا ً من قيادات القدس من العلمانيين لتصبح القيادة السياسية والوطنية للأراضي المحتلة ثم تشكيل لجنة التوجيه الوطني في السبعينيات ثم جمعية الدراسات العربية التي انبثقت عنها ما صارت تُعرف بمجموعة بيت الشرق بقيادة الشهيد الراحل فيصل الحسيني وكنت أحد أعضائها وأصبحت هي العنوان السياسي للشعب الفلسطيني وكانت تضم ممثلين عن كل الفصائل والقوى وكانت عنوانا ً لكل زائر أجنبي للمدينة من رؤساء وزراء ووزراء خارجية ودبلوماسيين وقادة من جميع دول العالم ومن جميع المستويات وكانت تؤمها الشخصيات الوطنية من كافة أرجاء الضفة والقطاع ولم يكن أحد من أي مكان في الضفة والقطاع يتردد في تلبية الدعوة لأن الجميع كان يسلم بأن القدس هي القلب وهي المركز وهي القيادة.
ولكن دور القدس بدأ يتضاءل مع قدوم السلطة الى أن تم تهميشها بالكامل. فمنذ عودة القيادة من الخارج كان هناك من يهمس في أذنها بأن عليها أن تثبت وجودها وتضع حدا ً لدور بيت الشرق. وحين حذر فيصل الحسيني من الخطر الاستراتيجي الذي يترتب على الغاء دور القدس، وكانت وزيرة الخارجية التركية آنذاك في زيارة للرئيس عرفات في غزة طلب منها أبو عمار أن تزور بيت الشرق وطلب من فيصل الذي تواجد في غزة أن يسبقها الى القدس ويستقبلها في بيت الشرق وتم ذلك بالفعل واستقبلناها نحن مجموعة بيت الشرق كالمعتاد.
ورغم ذلك فإن التحريض الداخلي الفلسطيني ضد بيت الشرق والتهويل والتخويف من استمرار دوره الديبلوماسي لم يتوقف.
وفي المقابل فقد التزمت السلطة في اتفاق أوسلو بأن لا يكون لها أي مكاتب أو مؤسسات في القدس، بينما يسمح بمثل ذلك للمنظمة فاستمر بيت الشرق في الوجود كمكتب لمنظمة التحرير الفلسطينية التي اعترفت بها بإسرائيل في رسائل الإعتراف المتبادل بين منظمة التحرير وإسرائيل والذي نتيجة له لم يُعط فيصل أي منصب وزاري في السلطة وإنما عضو في اللجنة التنفيذية للمنظمة لضمان استمرار وجود بيت الشرق وفيصل على رأسه مع التقليص التدريجي لصلاحياته الدبلوماسية الدولية .
وظل بيت الشرق مقرا ً رمزيا ً للمنظمة حتى بعد رحيل المرحوم فيصل الى أن استغلت السلطات الإسرائيلية العملية التفجيرية في مطعم سبارو بالقدس في شهر آب من نفس العام فقررت إغلاق بيت الشرق مع عدد من المؤسسات الأهلية الفلسطينية التي ظلت مغلقة حتى اليوم.
ومع أن إغلاق بيت الشرق كان خرقا ً لاتفاق الإعتراف المتبادل بين إسرائيل والمنظمة إلا أن المنظمة والسلطة لم تتخذا قرارا ً مماثلا ً بسحب الإعتراف بإسرائيل باعتبارها هي التي بادرت الى خرق الإتفاق وباعتبار أن الاتفاق هو بينها وبين م ت ف وليس بينها وبين السلطة. ولا بد في هذا الصدد من الإشارة الى أن القرار الذي اتخذه المجلس المركزي في دورته قبل أيام بسحب الإعتراف المتبادل بإسرائيل سيظل حبرا ً على ورق ذلك لأن ليست هذه هي المرة الأولى التي يتم فيها اتخاذ مثل هذا القرار الذي هو بمثابة قرار مع وقف التنفيذ لأن المجلس المركزي لا يقرر ولأنه ترك تنفيذ القرار الى رئيس المنظمة واللجنة التنفيذية. وفي رأيي أن سحب الإعتراف المتبادل كان يجب أن يتم في نفس اليوم الذي قررت فيه حكومة شارون إغلاق بيت الشرق، عندها كان له ما يبرره.