بقلم: جواد بولس
تشنّ المؤسسة الحاكمة في إسرائيل هجمة شرسة ضد المواطنين العرب، وذلك في مسعىً منها لتقويض معظم المنجزات السياسية والإجتماعية التي انتزعتها هذه الأقلية خلال عقود من النضال العنيد والإصرار المسؤول.
لقد تطرّقنا في مقالات سابقة ووصّفنا كيف تقوم، في السنوات الأخيرة، جميع منظومات الدولة برسم سياسات القمع وسلب حقوق الجماهير العربية وملاحقة مؤسساتها التمثيلية وقياداتها المؤثرة في حياتها العامة وفي بناء هويتها القومية وتماسك وحدتها الاجتماعية.
لم تستسغ قيادات الحركة الصهيونية، منذ البدايات، صمود بقية شعب انتكب وتشردت أكثريته؛ ولم يبلعوا كيف نجحت نخبة صغيرة من لملمة أنفاسها والإنبعاث كأقلية قومية صمدت وقاومت وعانت حتى استعادت هويتها الروحية والثقافية والوطنية، فغدت واحة من أمل ليس فقط وسط كيان، أريد له أن يكون يهوديًا نقيًا، بل في جميع أرجاء هذا الشرق الذي أضاع راياته عند أعتاب الشهب!
بعد سنين من الاخفاق يحاول، في هذه الايام، صقور اليمين الجديد تكرار الهجمات ولكن بأساليب شيطانية ومبتكرة وبوسائل أشدّ وأقسى؛ وكأنهم قد استخلصوا العبر من فشل سياسات من سبقهم.
تبرّر غايات هذا القوى الفاشية جميع وسائل القمع وتفانينه؛ تمامًا كما برّرت غايات الطغاة ظلمة التاريخ وعتمة الوجع؛ ولذلك سيكون ما سنواجهه في مواقعنا مجرد مقدمات لرحلة صيد قاسية ومتوقعة ونسخة عن تلك "السبع العجاف" التي قرأنا عنها في الكتب.
روائح القلق منتشرة حولنا وفي كل مكان، فكل الدلائل تشير الى أن المواجهة مع الطغاة الجدد ستكون، اذا لم نحسن التدبّر والحزم، عنيفة وخطيرة، وستبقى نتائجها، اذا لم نُجِد التصرف، مفتوحة على جهات التيه والريح والسفر .
يعربد في هضاب فلسطين "يهودا" وتنام رام الله كالحمامة في "خوذة" فجر دامٍ. فقدت غزة "هاشمًا" وطفقت تلهث نحو البحر.
لا وقت لدينا، في الجليل، لسباقات العجز ولحكايا الندم. الصحراء، في النقب، عارية والرمل فيها يأكل عقاربه. لا فرصة، في الكرمل، لهزيمة ننام على جفونها من أجل "نصرين" ينتظراننا في القاع كحجارة "الطاهر" في وادي الأدب. أرض الهلال تبكي "هارونها" الغافي بين نهرين وقمر؛ وبلاد العُرب باعت حلمنا مقابل نهدين وسيفين ووتر.
معارك إسرائيل معلنة على جميع الجبهات ؛ وأهمها عندنا، في هذه المرحلة، تلك المعلنة على "لجنة المتابعة العليا لشؤون الجماهير العربية"؛ فإسرائيل تعرف جيدًا ما قيمة هذه المؤسسة وما يعنيه وجودها على صعيد التمثيل السياسي الجمعي للأقلية الفلسطينية المواطنة في إسرائيل. وكما كان، ما زال القضاء عليها هدفًا رئيسيًا؛ لأنها، كما نعرف، وكما أكّد رئيسها محمد بركة مؤخرًا تُعتبر "الاطار القيادي الشامل والمتفق عليه للجماهير العربية في البلاد في نضالها من أجل حقوقها القومية والمدنية؛ وبوصفها صاحبة وطن، لا وطن لها سواه".
لم تنجح حكومات إسرائيل المتعاقبة في تدمير لجنة المتابعة ولا بتجويفها من الداخل؛ رغم محاولاتها المتعددة ومساعدة قلة من المتعاونين المباشرين أو المقنّعين في دعم جهودها. وقد يفسّر هذا الفشل تجنيدها لبعض الحناجر وأصحاب الأقلام المسمومة التي بدأت تحرّض على اللجنة وتدعو الحكومة إلى إخراجها خارج "القانون".
علينا أن نتنبه لهذه المحاولات التي ستستقوي حتمًا بما ستتيحه مجموعة القوانين العنصرية الجديدة، وخاصة "قانون القومية" الذي سيتحول إلى عصا القمع السحرية ضد المواطنين العرب وضد مؤسساتهم وقياداتها.
يأتي التركيز في هذه المرحلة على لجنة المتابعة بعد الضعف الذي طرأ على محاور القيادة العربية الناشطة بين الجماهير العربية في أسرائيل، كاللجنة القطرية للرؤساء، والاحزاب، والحركات السياسية والدينية، ومؤسسات المجتمع المدني، وشرائح النخب الجديدة.
ويمكننا، في هذا السياق، تسجيل ما أحرزته سياسات الحكومات السابقة والحالية على مستوى إقامة عدة أطر تمثيلية لرؤساء السلطات البلدية والمحلية العربية إلى جانب لجنة الرؤساء القطرية التي يرأسها مازن غنايم، رئيس بلدية سخنين؛ فلقد نجحت اسرائيل بإقامة لجنة رؤساء للسلطات المحلية الدرزية والشركسية، ولجنة أخرى تضم السلطات المحلية البدوية، الى جانب اللجنة القطرية.
لم يقتصر النجاح الإسرائيلي على إقامة عدة لجان فئوية، بل تعداه الى اختراق خطير حصل في صفوف لجنة الرؤساء القطرية ذات المكانة التمثيلية الجماهيرية السياسية الهامة، وذلك بعد تفشي ظاهرة انتخاب رؤساء غير حزبيين وقيام بعضهم باعلان استقلاله السياسي وعدم التزامهم بالمرجعيات الوطنية القطرية التقليدية، وتمرّدهم الفعلي على أنماط العمل الوحدوي، كما كانت متبعة ومقبولة خلال الفترة السابقة، والتي تكاملت فيها وتماهت وحدة المؤسسات القيادية - لجنة المتابعة ، الأحزاب والحركات السياسة والدينية واللجنة القطرية للرؤساء ومؤسسات من المجتمع المدني- وتناغمت آليات عملها من خلال توافقها على خطوط سياسية عريضة وعلى جوهر العمل الجماهيري والشعبي وعلى معنى المصلحة الوطنية وأهمية التكاملية النضالية مع أجزاء شعبنا الفلسطيني الأخرى.
لقد أدى تراجع دور الأحزاب والحركات السياسية العربية وضعفها الى نشوء مراكز قوى بديلة خرجت عن أطر المفاهيم الوطنية التقليدية وشرعت في تطوير لغة تخاطب جديدة مع المؤسسة الاسرائيلية وفي فتح قنوات تواصل مباشرة وتربية مجموعة مصالح فئوية محلية أخذت بالتكاثر في فضاءات سياسية مستحدثة تبشر بولادة وشائج غير مألوفة بين هذه القيادات من تمثله من جماهير وبين الدولة ومؤسساتها.
على هذه الخلفية، ستشكل نتائج انتخابات السلطات البلدية والمحلية القريبة محطة مفصلية في حياة الجماهير العربية؛ فإما ان تفضي نتائجها إلى تكريس هوية القيادات المنتخبة الحالية، رغم كونها بعيدة عن مرجعيات سياسية وطنية واضحه، مما سيؤدي إلى تعزيز التأثير الاسرائيلي عليها ؛ وإما أن تؤدي الى إحداث تغيير جوهري من شأنه أن يدعم دور اللجنة القطرية ويعيدها ضلعًا ثالثاً في مثلث القيادة الجماهيرية، الى جانب لجنة المتابعة والقائمة المشتركة.
سننتظر النتائج على أمل أن يحدث الانقلاب المنشود؛ ولكن بمنأى عن ذلك ورغم أهميته، علينا أن نقف إلى جانب لجنة المتابعة في معركتها المتوقعة مع الحكومة الاسرائيلية ؛ لأننا نؤمن كذلك، كما صرّح محمد بركة بأنّ "لجنة المتابعة لم تقم من خلال فرمان من المؤسسة الإسرائيلية ولن ينتهي نضالنا وتمسكنا بأرضنا وبحقوقنا وبانتمائنا بفرمان من المؤسسة...مهما بلغ جبروت الطغيان، لأنه وببساطة جبروتنا وإصرارنا أقوى، هكذا كان ... وهكذا سيكون .."
لا حياد في هذه المواجهة، فنحن وإن كنّا إلى جانب لجنة المتابعة، الا أننا ما زلنا ننتظر اصلاحها كما كان الوعد؛ ففي إصلاحها، هكذا أجزم، قوة لها ولنا، ومناعة ستساعد على صدّ الهجمة الإسرائيلية كما نريد.