بقلم: علاء الدين ابو زينة
قبل ربع قرن، يوم 13 أيلول 1993، وقع ياسر عرفات ورئيس وزراء الاحتلال، إسحق رابين، اتفاقيات أوسلو في واشنطن. وربما رأى البعض التطور في حينه إيجابياً للفلسطينيين، باعتبار أنه سينشئ لأول مرة منذ ضياع فلسطين دولة فلسطينية –موطئ قدم- في جزء من الوطن التاريخي. لكن ذلك كان تعزية بائسة للذات، والتي تعامت عن المقدمات القاتمة التي أفضت إلى أوسلو.
كانت أسوأ المقدمات هي تحطم الوعد الذي جلبه إعلان مشروع الكفاح المسلح من أجل التحرير في 1965. وقد بدأت الرصاصة الأولى في تلك الجولة من الصراع حركة تحرر وطني منظمة، تجمع بين العمل العسكري والنضال السياسي. لكن البندقية الفلسطينية سرعان ما طوردت بقسوة –لمختلف الأسباب الموضوعية والذاتية- من محيط فلسطين القريب، وتُركت للخروج الأخير الصعب من بيروت في 1982. وعنى ذلك إبعاد التكوينات العسكرية الفلسطينية عن منطقة الاشتباك المباشر مع العدو. وكان ذلك نتيجة لخطأ استراتيجي تاريخي، هو اعتماد منطق تكوين جيش والغزو من الخارج بدلاً من تأسيس بنى عسكرية بمواصفات ثورية داخل الوطن حيثما وكيفما أمكن ذلك. ومن البديهي أن لا تتسع الكرة الأرضية لجيش فلسطيني ينشأ ويعمل باستقلال وكفاءة جيش تحرير.
المقدمة الثانية فادحة النتائج على القضية الفلسطينية كانت توقيع الرئيس المصري أنور السادات اتفاقيات كامب ديفيد مع العدو في 1978، بعد إهدار الفرصة العسكرية في حرب تشرين الأول 1973. وقد أخرجت الاتفاقيات من المعركة أهم نصير عربي للفلسطينيين، عسكرياً وسياسياً. وشكل الاتفاق سابقة أتاحت للعرب المترددين فيما بعد اتباع السابقة المصرية والتوقيع مع العدو.
المقدمة الثالثة، وربما الأهم، كانت قدوم القوات العسكرية الأميركية إلى المنطقة مباشرة لإخراج صدام حسين من الكويت، فيما عرف بعملية "عاصفة الصحراء" في العام 1991. وقد أحبطت تلك العملية الآمال الواهمة التي تعلقت على صدام وإمكانية مواجهة أميركا، وحيدت العراق عسكرياً وسياسياً أيضاً، للمزيد من كشف ظهر الفلسطينيين. كما عمقت الشعور العربي الجمعي بالهزيمة بطريقة بررت حتمية الذهاب إلى مؤتمر مدريد للسلام (أو التسليم) في الشرق الأوسط، لاحقاً في العام نفسه.
هذه المقدمات، بالإضافة إلى الانقسامات المتوالية في الصف العربي وداخل الحركة الوطنية الفلسطينية نفسها، أرسلت الفلسطينيين إلى أوسلو في أردأ وضع ممكن. وكانت تلك محاولة يائسٍ التعلق بشيء، والتي يبذلها خالي الوفاض، مجرداً من العمق العربي ومضحياً بالثوابت الوطنية، ومعوّلاً على أمل واهم بحسن نوايا الأميركان.
الآن، تجيء ذكرى مرور ربع قرن على توقيع الاتفاق البائس مع قرار الأميركان إغلاق سفارة فلسطين في واشنطن، وبعد نقل سفارتهم إلى القدس وتطويبها للاحتلال، وقطع معظم التمويل عما تدعى "السلطة الفلسطينية" في الضفة المحتلة، واستهداف وكالة الغوث لإنهاء قضية اللاجئين. وهو كله نتيجة متوقعة تماماً بعد إخلال أميركا وكيان الاحتلال ببنود أوسلو وتواريخه النهائية مباشرة منذ سنواته الأولى. وقد استغل العدو الوقت الذي اشترته له الاتفاقيات بمثالية، فوسع مستوطناته، ورسخ احتلاله، واستعمل أمن السلطة لإحباط كل سبل المقاومة، وقسم الصف الفلسطيني، وأنشأ ما تدعى "الحقائق على الأرض" لقتل إمكانية نشوء دولة فلسطينية عاملة، وهيأ لما يحدث هذه الأيام بالضبط.
كما كان بائناً وتبين، كان أوسلو مخلوقاً مشوهاً بلا أطراف ولا قلب منذ البداية. فقد وُلد في ظروف ضاغطة غير طبيعية بلا أب معروف. وكان تكوينه يساوي 22% فقط في أحسن الأحوال من الكائن الطبيعي الذي ينبغي أن يكون فلسطين التاريخية. ولم تكن له يدان ورجلان ولا طاقة للحركة الذاتية، ولا إرادة أو كرسي متحرك أو عكازات أو أدوات. وعندما وُضع في "كوما" بعد الإخلال بشروط حياته خلال السنوات الأولى، وضعوه على أجهزة إعاشة وهو ميت سريرياً. وخلق وجوده بهذه الصفة آباء شغلهم الذي يعتاشون ويثرون منه هو السهر عند سريره، والاعتقاد بأن إعلان موته سيتركهم فائضين بلا عمل.
الآن، ربما يعلن الأميركان موت مسخ أوسلو المشوه متوقف النمو بعمر 25 عاماً. ولا ندري! ربما يكون ذلك أفيَد، وأدعى لطرد الوهم والحياة والسعي إلى تبني كائن أكثر طبيعية وقابلية للحياة.