علي جرادات
بداية، يجدر التذكير بأن جولة مفاوضات كامب ديفيد حول «قضايا الوضع النهائي»، في يوليو/ تموز 2000، قد قطعت الشك باليقين حول رهان أن تفضي «التهدئة» الميدانية مع الاحتلال، مع ما ترتب عليها من التزامات وتنازلات سياسية وأمنية واقتصادية، إلى إنجاز سياسي حاسم، ولو في حدود إقامة دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة على حدود 67 وعاصمتها «القدس الشرقية». وهو ما شكل الأساس السياسي لاندلاع «انتفاضة الأقصى» المسلحة بعد مرور شهريْن على تلك الجولة التفاوضية المفصلية.
بذلك، عادت علاقة الحركة الوطنية الفلسطينية مع الاحتلال، بالمعنى الميداني، إلى ما كانت عليه قبل «أوسلو»، أي علاقة حركة تحرر وطني وديمقراطي باحتلال استيطاني عدواني توسعي عنصري. هنا، استغلت حكومة الاحتلال، بقيادة شارون، آنذاك، الظروف الدولية والإقليمية التي أفرزتها «غزوة» ابن لادن غير الميمونة في سبتمبر/ أيلول 2001. فقد اجتاح جيش الاحتلال الضفة اجتياحاً شاملاً، وأشبع قطاع غزة قصفاً وتدميراً، بل وتمادى شارون لدرجة مطالبة العالم بالضغط على الفلسطينيين، بقيادة الرئيس الشهيد أبو عمار، آنذاك، لأجل «تجريد فصائل المقاومة من سلاحها». رفض الأخير الفكرة جملة وتفصيلاً.
وإذا كان «مسار مدريد- أوسلو» قد قاد إلى التباسات والتباسات في مفردات وطنية ونضالية أساسية وجوهرية، فإن الانقسام الداخلي قد زاد الطين بلة، وزاد الأمور تعقيداً على تعقيد، حتى بات الأمر بحاجة إلى مراجعة ما هو بديهي في قضايا عديدة، يعنينا منها الآن، ما يتعلق بفكرة «التهدئة» مع الاحتلال، بالمعنييْن النظري والتطبيقي، خصوصاً في ظل حوارات الفصائل الدائرة في القاهرة حول موضوع «التهدئة» مع الاحتلال في قطاع غزة.
لذلك، وكي لا يجهلنَّ أحد على أحد فلنقل: نعم حركة التحرر الوطني الفلسطيني، (ككل حركة تحرر)، لا تصنع تاريخها النضالي على هواها، بل على أساس ما تجابهه من شروط سياسية وميدانية، خارجية وداخلية، معقدة ومتحولة، تفرض، أحياناً، اللجوء إلى تخفيض وتيرة النضال، أو تغيير أشكاله، أو حتى إلى «استراحة المقاتل». وهذا أمر مفهوم ومشروع في إطار التكتيك الذي مارسته جميع حركات التحرر الوطني المعاصرة، إنما وفق ضوابط، لعل أهمها:
*أولاً، أن تكون «التهدئة» بناء على حسابات وطنية داخلية، لا بناء على اتفاقات، مباشرة أو غير مباشرة، مع الاحتلال، الأمر الذي ينطوي على تقديم تنازلات سياسية، وعلى إظهار وكأن الصراع يدور بين دولتيْن وجيشيْن متكافئيْن، أي كأنه ليس صراعاً بين حركة تحرر تمارس نضالاً وطنياً دفاعياً مشروعاً ضد احتلال عدواني باغٍ متغطرس لم يلتزم يوماً بأي اتفاق أبرمه، وعلى السقوط في براثن تغليب التكتيكي على الاستراتيجي، والعملي على البرامجي، والبرغماتي على المبدئي...إلخ.
*ثانياً، أن تكون «التهدئة» بقرار وطني لا فصائلي، كي لا يجري تغليب الفئوي على الوطني، الأمر الذي ينطوي، بوعي أو بغير وعي، على إعاقة إعادة بناء «الجبهة الوطنية»، إحدى أهم ركائز، وأقوى أسلحة حركات التحرر الوطني المعاصرة لمواجهة وتعديل ميزان القوى مع الاحتلال، والانتصار عليه في نهاية المطاف، بل وعلى الوقوع في مقتل تغليب التناقضات الفلسطينية الداخلية الثانوية على التناقض الرئيسي مع الاحتلال، بما يفضي إلى تعدد الأجندات.
*ثالثاً، إذا كانت تلك هي النتائج الملموسة لإبرام اتفاقات «التهدئة»، الوطنية منها والفصائلية، مع الاحتلال، حتى قبل طرح «صفقة القرن» الأمريكية التصفوية، وإقرار الاحتلال ل«قانون القومية» الإلغائي الإحلالي العنصري؛ فما بالك بالنتائج التي ينطوي عليها عقد مثل هذه الاتفاقات بعد طرح هذه «الصفقة» وإقرار هذا «القانون»؟ إن أدنى المخاطر، هنا، هو السقوط في فخ متاجرة الاحتلال والإدارة الأمريكية بأزمة قطاع غزة الإنسانية لتمرير فصل ميداني جديد من فصول محاولة جديدة، يقوم بها قادة الاحتلال، بدعم أمريكي كامل وشامل، لتصفية القضية الفلسطينية من جميع جوانبها. أما لماذا؟ فلأن «جهنم مبلطة بالنوايا الحسنة». إن شمولية هجوم حكومة الاحتلال والإدارة الأمريكية القائمتيْن لا يترك للمتحاورين في القاهرة سوى: إما الذهاب، بلا تردد، نحو خيار توحيد الجهود والإمكانات والطاقاتأو البقاء في دائرة المراوحة في المكان، أي في دائرة الرهانات الفاشلة والمُدمرة.