بقلم: الدكتور محمد السعيد إدريس
لسنوات طويلة ظل الكيان الصهيوني ومؤسسوه وقادته وحلفاؤه من دول العالم خاصة الغرب الاستعماري، وفي المقدمة منه بريطانيا والولايات المتحدة يتسترون على الحقائق والمكونات التي تأسس عليها هذا الكيان من أهداف وأدوار. ربطوا بين «الصدمة» وبالتدرج في الإفصاح عن هذه المكونات. كان التدرج والمخادعة هما السمة العامة، وعندما يدركون أن الظروف باتت مواتية يسارعون بفرض الصدمات وذلك بشن حروب التوسع وسياسات القهر والعدوان على الشعب الفلسطيني والدول العربية المجاورة ابتداءً من حرب 1948 وبعدها العدوان الثلاثي عام 1956، ثم عدوان حزيران 1967، ثم الحروب المحدودة والاعتداءات على الشعب الفلسطيني. كان العامل الحاكم في هذه السياسة هو «الرهان على الزمن» والثقة بأنه يعمل لصالحهم وليس لصالح العرب والفلسطينيين بالأساس، من هنا كان رفضهم لكل مبادرات السلام، وكل قرارات الشرعية الدولية والإصرار على التأسيس لشرعية بديلة حاكمة هي شرعية «القوة الإسرائيلية» ومتطلبات الأمن والتوسع الإسرائيلي لفرض السلام الذي يريدونه.
اهتموا بإعلان إسرائيل دولة ديمقراطية لإخفاء حقيقة كونها دولة عنصرية بغيضة، لأسباب تتعلق بالرهان على الزمن و التاريخ ومخادعة العالم، تماماً كما أخفوا حقيقة كونهم دولة نووية، واختاروا ما سموه بسياسة «الخداع الإستراتيجي». ظلوا يخادعون العالم بإخفاء هذه الحقائق على اعتبار أن الوقت لم يكن مناسباً للإفصاح عنها وبالذات بالنسبة لهوية الدولة والتوسع الاستيطاني، ولعل هذا ما يفسر أسباب رفضهم لمبادرة السلام العربية الصادرة عن مؤتمر القمة العربية الذي عقد عام 2002 في بيروت، وهي المبادرة التي قبلت، بمقايضة الانسحاب الإسرائيلي الكامل من كل الأراضى العربية التي احتلت عام 1967 بالتطبيع الشامل للعلاقات بين الدول العربية وإسرائيل.
رفض الإسرائيليون منذ عام 2002 مبادرة السلام العربية لأنهم كانوا يريدون من العرب السلام والتطبيع الشامل دون دفع أي ثمن، أي دون الانسحاب من الأراضي التي احتلت عام 1967، لقناعتهم بأن بمقدورهم أن يفرضوا على العرب تطبيع علاقاتهم مع إسرائيل دون دفع أي ثمن للفلسطينيين، ويبدو أنهم أضحوا الآن على قناعة بأن بمقدورهم أن يفرضوا ذلك، ولعل هذا ما حفزهم على إصدار ما يسمى بـ «قانون الدولة القومية» الذي يجعل من فلسطين وطناً وأرضاً للشعب اليهودي دون غيره، ويجعل حق تقرير المصير حقاً لليهود دون غيرهم على هذه الأرض، ويجعل اللغة العبرية اللغة الرسمية الوحيدة في البلاد، ويجعل العرب مجرد أقلية ، ومن ثم يفرض على عرب فلسطين حتمية القبول بأحد خيارين إما الرحيل من الدولة إلى خارجها، وإما القبول بالدونية وأن يتحولوا إلى مجرد أقلية ليس من حقها المطالبة بالمواطنة والحقوق المتساوية. هكذا أشهرت إسرائيل عنصريتها دون خجل وضربت عرض الحائط بما كان يسمى «ديمقراطية»، لم تكتف بذلك بل شرعنت هذه العنصرية بهذا القانون الذي يُعلى من شأن يهوديتها. فالقانون ينص على أن «إسرائيل هي الوطن التاريخي للشعب اليهودي»، وأن حق تقرير المصير فيها «يخص الشعب اليهودي فقط» لم يكتف بالنص على أن «إسرائيل هي دولة الشعب اليهودي» بل نص على أنها «وطن الشعب اليهودي» ما يعني تبني أكذوبة أن فلسطين هي أرض الشعب اليهودي فقط، هي «أرض الميعاد» وهي «عطاء من الرب» لا يمكن التفريط فيه، وأن الوجود العربي كان وجوداً احتلالياً، وأن حرب 1948هي «حرب الاستقلال» وأن الأرض التي يقومون بالاستيطان فيها ابتداءً من القدس إلى معظم أراضي الضفة الغربية ليست احتلالاً بل إن ما يقومون به هو توسع في الوطن الإسرائيلي، لذلك نص هذا القانون على أن «الدولة تعتبر تنمية الاستيطان اليهودي قيمة قومية وستعمل على تشجيع ودعم تأسيسه»، كما نص على أن «القدس الكبرى والموحدة والكاملة عاصمة إسرائيل وأن اللغة العبرية هي لغة الدولة الرسمية، وأن الهجرة التي تؤدي إلى المواطنة المباشرة هي لليهود فقط» ما يعني الإنهاء الكامل لحق العودة بالنسبة للشعب الفلسطيني، وجعل العودة حقاً مطلقاً لليهود دون غيرهم. كم كان ملفتاً ما حدث عقب التصويت على هذا القانون والتصديق عليه من الكنيست من جانب بنيامين نيتانياهو رئيس الحكومة.
فقد تقدم إلى منصة الكنيست وقال مخاطباً العالم كله، وفي القلب منه العالم العربي، وليس فقط الإسرائيليون «أن هذه لحظة مؤسسة في تاريخ الصهيونية، وتاريخ دولة إسرائيل، فبعد 122 عاماً من نشر هيرتسل حلمه (ثيودور هيرتسل مؤسس المشروع الصهيوني والمشرف على انعقاد المؤتمر الصهيوني الأول عام 1897). ثبتنا بقانون، المبدأ الأساسي لوجودنا. إسرائيل هي الدولة القومية للشعب اليهودي.. أنا أكرر: هذه دولتنا، دولة اليهود»، وكم كان ملفتاً أيضاً حرص النائب آفي ديختر، المبادر الأول لإعداد هذا القانون (وزير الشاباك «أمن الدولة» الأسبق) على أن يوضح لزعماء ونواب الشعب الفلسطيني في الكنيست من أعضاء القائمة العربية المشتركة الحدود التي يجب أن يتحركوا طبقاً لها ابتداءً من لحظة التصديق على القانون، وهي أن أقصى ما يجب أن يطمحوا إليه هو «المساواة بين الأقليات وليس المساواة القومية» وقال «كل ما باستطاعتكم فعله هو المساواة لأقليات، وليس مساواة قومية».
لن تكون أي أقلية قادرة على تغيير رموز الدولة «إسرائيل ليست دولة ثنائية القومية أو ثنائية اللغة ولن تكون هكذا، إسرائيل هي الدولة القومية للشعب اليهودي». قد يتصور البعض، عن إدراك خاطئ، أن هذا القانون يقتصر فقط على من يعيشون داخل إسرائيل أي العرب الذين يشكلون الآن 20% من السكان، لكنه يمتد بالتأكيد إلى القدس والضفة الغربية ضمن إطار التوسع الاستيطاني والتهويد، في ظل هدف فرض فلسطين دولة لشعب واحد هو الشعب اليهودي. وهكذا يكون خيار حل الدولتين قد سقط نهائياً، وسقط معه خيار الدولة الواحدة ثنائية القومية (أي العرب واليهود) والرسالة التي يريدون فرضها بهذا القانون أنه لم يعد أمام الفلسطينيين والعرب غير القبول بأن فلسطين هي للشعب اليهودي وحده، وأن عليهم القبول بنهاية حق عودة اللاجئين الفلسطينيين.
راهن الإسرائيليون على أن الزمن يعمل لصالحهم كما راهنوا على العجز العربي الكامل، واختلال موازين القوى لصالحهم وثقة منهم أنه ليس باستطاعة العرب إسقاط السماء على الأرض مثلما لم تسقط عندما أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب القدس الموحدة عاصمة أبدية لدولة إسرائيل، لكن يبقى السؤال الأهم وهو بعد هذا كله: على ماذا يراهن العرب بتمسكهم بـ«خيار السلام» بعد أن أسقطت إسرائيل كل الخيارات؟
...عن «الأهرام» المصرية