بقلم: الدكتور محمد السعيد إدريس
المواجهة التي بدت عنيفة بين قادة مجموعة الدول الصناعية الكبرى السبع في قمتهم التي استضافتها كندا يومي الجمعة والسبت الماضيين (8- 9/6/2018) لم تنشأ من فراغ، كما أنها ليست وليدة عوامل طارئة، ولكنها تعكس حالة من التمرد الأوروبي- الكندي العاجز عن الحسم مع الولايات المتحدة، بقدر ما تعكس إصرارا أمريكيا على فرض الهيمنة على حلفاء باتوا عصيين على التطويع الكامل، فهؤلاء الحلفاء أضحت لهم مصالحهم الخاصة التي لا تتوافق بالضرورة مع المصالح الأمريكية، ولهم سياساتهم وخياراتهم التي قد تتعارض مع السياسات الأمريكية، وهم يحاولون، قدر الإمكان، التعايش مع هذه الأجواء، يقبلون أحيانا، وربما اضطراراً مواقف أمريكية لا يرتاحون لها، ويعارضون أحياناً أخرى سياسات أمريكية يصعب تعايشهم معها، لكن «المواجهة المنضبطة»، إن صح التعبير، التي حدثت بين قادة المجموعة وبين الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في القمة الأخيرة، التي غادرها ترامب إلى سنغافورة ليلتقي فيها اليوم (الثلاثاء) الزعيم الكوري الشمالي كيم جونج أون، تؤكد أن العلاقات بين الولايات المتحدة وشركائها في مجموعة الدول الصناعية السبع، أضحت في مفترق الطرق، بل ربما أقرب إلى الافتراق.
فما يحدث بين الولايات المتحدة وهؤلاء الحلفاء أو الشركاء القدامى الآن أقرب إلى الحرب التجارية. هذه الحرب بدأها ترامب بفرض رسوم جمركية مشددة على واردات الصلب والألومنيوم من الاتحاد الأوروبي وكندا والمكسيك قبل ساعات من انعقاد القمة، وجاء الرد سريعا في اجتماع ضم الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، والمستشارة الألمانية إنجيلا ميركل، ورئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي ورئيس الوزراء الإيطالي جوزيبي كونتي قبيل انعقاد تلك القمة للإعراب عن نفاد صبرهم من تهديدات ترامب بحرب تجارية، وعقب انتهاء هذا الاجتماع خرج الرئيس الفرنسي ليعلن أن زعماء مجموعة السبع «سيضغطون في شأن الرسوم الجمركية التي فرضها ترامب على واردات الصلب والألومنيوم». وجاء الرد الأمريكي سريعا بإعلان المتحدثة باسم البيت الأبيض أن الرئيس الأمريكي «ربما يغادر إلى سنغافورة قبيل انتهاء القمة»، وكان هذا يعني أن ترامب لن يحضر مناقشات القمة لقضايا أخرى مهمة لا يريد أن يلتزم بشئ بخصوصها خاصة قضايا البيئة والتغيرات في المناخ وتلوث المحيطات. وإذا كان الرئيس الأمريكي قد عبر في «تغريداته» قبيل وصوله إلى القمة عن اهتمامه بتسوية ما وصفه بــ «الخلافات التجارية غير العادلة» مع دول المجموعة، فإنه زاد عليها قوله إنه «إذا لم يحدث ذلك سيكون أفضل»، وإنه «ليست لديه أي نية للاعتذار أو التراجع».
وإذا كان ترامب قد أكمل حضور الجلسات في ظل حرص قادة مجموعة الدول السبع على التهدئة وإكمال القمة دون انسحابات فإن التوتر عاد أعلى مما كان قبل بدئها وازداد الشرخ عمقا بين واشنطن وشركائها بسبب تهديدات ترامب بأن الولايات المتحدة «لن تعود كما كانت صندوقا من المال الذي يسرق منه الجميع»، وأنه لابد من فرض رسوم جمركية على الواردات الأمريكية، وفرض خيار «التجارة العادلة» بدلا من «التجارة الحرة»، ودعوته إلى مفاوضات منفصلة بين بلاده وكل من كندا والمكسيك للتوصل إلى اتفاقات ثنائية بدلا من «اتفاق التجارة الحرة لدول أمريكا الشمالية» (النافتا) الذي يجمع الولايات المتحدة بكل من كندا والمكسيك، الأمر الذي دفع رئيس الوزراء الكندي جاستن ترودو إلى وصف الرسوم الجمركية الأمريكية بأنها «ضرائب غير مقبولة» وأنها «تمثل إهانة للشراكة الأمنية القائمة منذ زمن طويل بين كندا والولايات المتحدة، وإهانة لآلاف الكنديين الذين قاتلوا وقضوا بين أشقائهم في السلاح الأمريكي»، وأنه «لا خيار أمام كندا غير فرض رسوم جمركية انتقامية على الولايات المتحدة».
وهكذا انتهت القمة وسط أجواء من الشعور المتبادل بتفجر «حرب تجارية» بين الولايات المتحدة وشركائها في مجموعة السبع، حفزت الرئيس الفرنسي للتعليق على تصريحات ترامب بأن «الرئيس الأمريكي قد لا يعارض العزلة، ونحن أيضا لا نمانع في توقيع اتفاق بين الدول الست» أي باقي دول مجموعة السبع، كما شجعت الصحافة الفرنسية للبدء في تسمية الدول السبع بـ «مجموعة الست ضد واحد»، والسؤال المهم بهذا الخصوص هو: هل يمكن أن تنفرط مجموعة السبع؟ وهل يمكن اعتبار الدعوة الحماسية التي أطلقها الرئيس ترامب قبيل انعقاد القمة وفي أعقابها بعودة روسيا مجددا إلى المجموعة لتعود لتصبح «مجموعة الدول الثماني»، على الرغم من كل الخلافات والعقوبات الأمريكية المتصاعدة ضد روسيا، خطوة في هذا الاتجاه، أي خطوة في اتجاه تفجير مجموعة الدول السبع التي أعلنت رفضها بقوة لمثل هذا الاقتراح الأمريكي.
وإذا كانت الأزمة تتفاقم الآن بين كل من كندا والمكسيك وبين الولايات المتحدة فإلى أين تتجه أوروبا؟ بمعنى هل تستطيع أوروبا أن تتمرد على الولايات المتحدة؟، أي هل تملك القدرة على هذا التمرد حتى إذا كانت تملك الرغبة؟ وإلى أين يمكن أن تتجه أوروبا؟، هل يمكن أن تتقارب مع روسيا والصين في ظل الخلافات الأوروبية الشديدة مع روسيا منذ ضم روسيا لشبه جزيرة القرم، وفي ظل التخوفات التجارية من العملاق الصيني؟ أم أن الخيار الأفضل هو أن تتحول أوروبا إلى «تجمع سياسي- أمني» حقيقي بعيدا عن الولايات المتحدة، وأن تدفع العالم نحو خيار التعددية القطبية، وأن تكون قطباً عالمياً قوياً وموحدا قادراً ليس فقط على المنافسة، بل وعلى الصراع؟.
لم يكن مؤتمر ميونيخ للأمن الذي يعقد سنويا في هذه المدينة الألمانية في حضور زعماء ومسئولين من مختلف أنحاء العالم بعيدا عن جوهر مثل هذه التساؤلات وبالذات التساؤل الأخير حول الخيار الأمني الأوروبي المستقل، فقد حذر هذا المؤتمر في تقريره السنوي الذي صدر مطلع هذا العام من سياسات ترامب «التي تقود العالم إلى حافة الهاوية»، وطالب بـ «نظام أمني أوروبي مستقل كلياعن الولايات المتحدة»، وسبق للمستشارة الألمانية إنجيلا ميركل أن وصفت قرار الانسحاب الأمريكي من الاتفاق النووي الموقع مع إيران بأنه «انتهاك للنظام الدولي»، لكن مشكلة أوروبا أنها «غير موحدة» ومازالت تعاني من أزمة ثقة داخلية بعد الانسحاب البريطاني من الاتحاد الأوروبي، كما أنها لا تملك القدرة على تحدي الإرادة الأمريكية وهذا ما يدركه ترامب ويشجعه على ممارسة المزيد من سياسات الإهانة والإذلال لتطويع القرار الأوروبي ليعود أداة أمريكية كما تريدها واشنطن، والأزمة مع إيران هي أهم ميادين هذا التطويع الأمريكي للإرادة الأوروبية.
عن «الاهرام» المصرية