Menu
فلسطين - غزة °-18 °-18
تردد القناة 10873 v
بنر أعلى الأخبار

الحصار الثقافي على فلسطين والفلسطينيين!

22222222.jpg

إبراهيم نصر الله

سمعت أكثر من مرة، من شعراء وأدباء فلسطينيين، الطريقة التي كانوا يحصلون فيها على الكتب، في فلسطيننا البحرية، أي ذلك الجزء الغربي الذي احتُلَّ عام 1948، وكيف كانوا مضطرين لنسخ كل ديوان شعر يصلهم بأيديهم، وعلى دفاترهم، في زمن كان وصول ديوان لأحد الشعراء العرب، إلى هناك، يحتاج إلى معجزة، باعتبار القصيدة خطراً على الاحتلال ومساساً عميقاً بأمنه.

كان ذلك في نهاية الخمسينيات ومطلع الستينيات من القرن الماضي.

في الحقيقة من هذه النقطة بالذات، يمكن أن نتصور المعجزة الكبرى التي حقّقها الكتّاب الفلسطينيون هناك، وكيف استطاعوا من دفاتر المدرسة تلك، أن يؤسسوا لواحد من أهم تيارات الأدب والحداثة في حياتنا الثقافية والإنسانية والوطنية العربية.

ذلك الحصار الحديدي للكلمة، (وخوف الطغاة من الأغنيات) حسب تعبير محمود درويش، لم يزل مستمراً، حتى بعد أن اجتاحوا فلسطين كلها، واجتاحوا مدناً وعواصم وحالفوا أنظمة الهشاشة والملح، تحت الطاولات وفوقها، وبعد أن استطاعوا رفع أعلامهم في غير عاصمة عربية.

ما زال الأعداء يخافون الكلمات.

وعليهم أن يخافوها.

في زيارة لعدد من جرحى مسيرة العودة، ممن وصلوا إلى عمّان لتلقّي العلاج، التقينا بعدد منهم، ولم يكن صعباً علينا أن نعرف كيف أن شباباً ممتلئين بالبطولة، والقدرة على الضحك رغم إصاباتهم الخطيرة، كانوا يتحدثون عن روايات بعينها وقصائد، ويستعيدون جملاً ومقاطع شعرية، لكتّاب عرب وعالميين، بحيوية نادرة وروح خصبة.

رغم كل الحصار الذي تعاني منه غزة، الحصار الذي لا مثيل له، ما زال هؤلاء يثبتون أن مسيرة عودتهم مسيرة بشر يحبون الكلمة والفن ويتشبثون بجمال العالم، في طريقهم للقاء أعظم قيمة على هذه الأرض: حريتهم، وأجمل مكان على هذا الكوكب: بيوتهم التي يحتلها الأعداء.

كان الأب المرافق لابنه المصاب يقول لنا: ثلاثة من أبنائي أصيبوا، واحد استشهد، ورفع طرف بنطاله مشيراً إلى رصاصتين اخترقتا قدمه، والتفت إلى ابنه المصاب، وأضاف: منذ أن أصيب أقول له عليك أن تشفى بسرعة، لتعود إلى مسيرة العودة.

لكن عيني الأب كانتا دامعتين، ولم يخجل من دموعه التي انسابت، مسحها وواصل: نحن أكثر الناس محبة للحياة، ولذا نحن على استعداد دائماً أن ندفع الثمن الأعلى من أجل هذه الحياة وحريتنا، حين يرى آخرون أن ما يملكونه أغلى من حريتهم.

لم يكن ذلك الأب يلقي خطاباً وينتظر تصفيقاً، كان يتنفس، فَمَن يلقون الخطب الأعلى صوتاً لا يمكن أن نلمح الدمع في أعينهم.

هذه ثقافة مقاومة أصيلة في حديث هذا الأب، تجد جذورها في حديث شابين جريحين، بجوار سرير الابن، يختلفان على تعلّق كل منهما بكاتب، أو تعلق أحدهما بالرواية، وآخر بالشعر. هذا خلاف شعب يواصل صعوده إلى حريته، وهذا خلاف لا يمتُّ إلى انشقاقٍ شَرَخَ الروح الفلسطينية وأدماها، هذا خلاف يوحّدها في الجمال أكثر وأكثر ويسمو بها إلى المعنى الحضاري لنضال الفلسطيني الذي يحتضن قضيته.

.. العدو الصهيوني يفهم ذلك، يفهم أثر الثقافة.

ليست مصادفة أن تُصادر الكتب وتُتلف، وليست مصادفة أن يُمنع مائة وخمسون كاتباً وناشراً من الاشتراك في معرض الكتاب الذي أقيم مطلع أيار/مايو في رام الله.

هذا الحصار الثقافي على الشعب الفلسطيني يجب أن يكون عنواناً كبيراً من عناوين نضال هذا الشعب وكل أحرار العالم، ضد هذا الكيان الصهيوني. ويجب أن يكون هناك تحرك كبير في الجامعات والأوساط الثقافية العالمية، والعربية أيضاً، والمنظمات الدولية المعنية بالثقافة لمنع ذلك، ومن يعتقد أن الدفاع عن حق الفلسطينيين في الثقافة أقل مستوى من دفاعه عن حقهم في رغيف الخبز، فإنه لم يفهم بعد كيف تنتصر الشعوب، ولم يفهم، بعدُ، كيف أن الشعب المحاصر من قريبه وبعيده، لم يزل، بعدُ، على قيد عزَّته وصموده وحريته ومستقبله.

من أجمل وأروع ما حققته فلسطين، رغم كل ما أصابها، ذلك المنجز الأدبي الفني الحضاري، بعد أن كانت الصهيونية غولدا مائير تدّعي (لو كان الفلسطينيون شعباً لكان لهم أدب!) مع أنها بجملتها العنصرية تلك كانت تحاول محو ثقافة ممتدة رسخّها شعراء وكتّاب ومترجمون وفنانون ما قبل النكبة وبعدها.

بدأت الرقابة قبل أكثر من ألفي عام بحرق الكتب لا بمنعها، وشهد التاريخ البشري منذ عصر القيصر طيباريوس سلسلة من الاحتفالات السوداء هذه، التي لم يكن آخرها ذلك الذي وقع عام 1933 على يد النازية التي أوقدت النار بالكتب أمام جامعة برلين!

ولكن الفاشية الصهيونية تواصل العمل حاملة المشعل، المشعل الذي يلقى على الكتب، والبندقية التي تحرس لصوص المكتبات الفلسطينية التي نهبت.

منذ فترة كنت مع عدد من الأصدقاء الناشرين، وكان الحديث منصبّاً حول مشكلات قيام الصهاينة بمنع دخول أي كتاب مطبوع في بيروت، مثلاً، إلى الشعب الفلسطيني! وهذا أمر يتجاوز مسألة الرقابة، لأن كل الكتب ممنوعة أياً كانت مواضيعها، وذلك يعني منع وصول المعرفة لشعب كامل يرزح تحت الاحتلال.

أحد المؤرخين الفلسطينيين قال: أنتم تستغربون ذلك، ولكن هل تعلمون أن سلطات الاحتلال تمنع دخول الكتب السماوية، أيضاً، إذا كانت مطبوعة في بيروت؟!

وبعد:

أهمية الكتاب نعرفها حين نعرف كم له من أعداء،

ونعرف أهميته أكثر حين تناصبه الفاشية الجديدة كل هذا العداء!