د. أسعد عبد الرحمن
ثمة تطورات بارزة ومتسارعة، ربما تبدأ بإعادة صياغة الوضع الراهن في منطقة الشرق الأوسط:
(1) مسيرات العودة التي توجت بمسيرة «مليونية العودة» من قطاع غزة، والمجزرة الإسرائيلية بحق المشاركين فيها مع نشر جيش الاحتلال 11 كتيبة على طول السياج الأمني مع قطاع غزة المحاصر. وهي مسيرات لها أهداف عديدة، منها التنديد بالحصار الإسرائيلي المفروض على قطاع غزة منذ أكثر من عشر سنوات.
2) تدشين الولايات المتحدة الأميركية سفارتها في القدس المحتلة لتحقق «الوعد» الذي أطلقه دونالد ترامب رغم استنكار المجتمع الدولي وقلقه العميق بخصوص تجاوز الشرعية الدولية وبشأن استقرار الوضع الإقليمي.
(3) شرعنة اقتحام المسجد الأقصى بعد أخطر محاولة لتدنيسه، منذ احتلال القدس في عام 1967، مع رفع العلم الإسرائيلي من قبل المستوطنين في إطار احتفال ما تسميه إسرائيل «يوم توحيد القدس».
(4) التوتر مع إيران، أميركياً وإسرائيلياً في الساحة السورية، الأمر الذي يُبقي احتمالات التصعيد بالمنطقة ككل في درجة حرارة عالية جداً.
بعد المجزرة الإسرائيلية في القطاع، حاولت دولة الاحتلال إظهار نفسها بالمنتصر الأول في ما يجري، وأنها إنما تدافع عن نفسها في سياق الاسطوانة المشروخة الدائمة «التهديد الوجودي للدولة». لكن على الأرض هناك ما يؤكد ارتباكها، إن لم يكن رعبها، من كل ما حدث وسيحدث، فالمعضلة الأهم لدولة الاحتلال هي عدم فقدانها السيطرة على قطاع غزة حتى لا تتدحرج «كرة الثلج» وتكبر في الضفة الغربية وفلسطين 48، في ظل حالة الاستنزاف للجيش الإسرائيلي ونشر 20% من قواته النظامية، مع تأزم جبهة الشمال. وها هي تلك «الكرة» تتدحرج وتكبر على امتداد أرض فلسطين التاريخية، بل وعلى امتداد العالم أيضاً.
لا «احتفال» تدشين السفارة الأميركية ولا الخطب والكلمات التي قيلت فيه لفتت أنظار العالم الذي انشغل بما يجري من مجازر في قطاع غزة، الأمر الذي استدعى رد فعل عالميا لاستسهال جيش «الدفاع» قتل العزل، فيما كانت دولة الاحتلال تأمل بإنجاح احتفالية نقل السفارة، علَّ الأمر يشجع دولا أخرى على الاحتذاء بالولايات المتحدة. لكن دول العالم سرعان ما أدانت ما اتفقت على أنه «عنف إسرائيلي غير ضروري» ضد شعب أعزل، وسط استهداف قناصة الاحتلال المباشر للمتظاهرين السلميين، بما في ذلك الطواقم الصحفية وطواقم الإسعاف، بل وقصفت التجمعات السلمية التي توافدت إلى المنطقة الحدودية، باستثناء الولايات المتحدة التي حملت الفلسطينيين العزل مسؤولية المجزرة، وعطلت إصدار بيان من مجلس الأمن الدولي لإظهار استيائه وحزنه على سقوط عدد كبير من الضحايا الفلسطينيين على أيدي قوات الاحتلال، وللمطالبة بإجراء تحقيق مستقل وشفاف بشأن هذه الجرائم، وللتنويه بعدم قانونية نقل أي سفارة لأي دولة إلى القدس، ودعوة جميع الدول، بما فيها الولايات المتحدة، إلى الالتزام بقرارات مجلس الأمن ذات الصلة بهذا الشأن.
المجزرة جريمة مدروسة ومخططٌ لها. وقد حذّر جيش الاحتلال من أنه على استعداد لارتكاب مجزرة لوقف المسيرات، بغية كسر شوكة القطاع وتحطيم ظهر المقاومة. فدولة الاحتلال لا تستطيع تحمل استمرار المسيرات وإبقاء جيشها في حالة استنفار دائم، لكنها، أقله حالياً، لن تجرؤ على نقل المعركة من الحدود إلى قلب القطاع في حرب مفتوحة. فالمقاومة الفلسطينية امتنعت عن إطلاق الصواريخ على إسرائيل، وخلال أسابيع المسيرات لم يصب أي إسرائيلي بأي خدش. هذا، مع عدم تجاهل أن دولة الاحتلال دخلت مع إيران في صراع مباشر في سوريا، ولا يبدو أن أحداً منهما مستعد للتنازل، فيما يحاول رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو توريط الولايات المتحدة أكثر في المستنقع السوري، فضلا عن التوتر القائم بين إسرائيل و«حزب الله» في لبنان.
ومما حققته مسيرات العودة كونها أعادت الاعتبار للقضية الفلسطينية على أجندة المجتمع الدولي، كما أنها أكدت على وحدة الشعب وتماسكه وعلى استعداده للتضحية. ولفتت أنظار العالم أيضاً إلى إصرار الشعب الفلسطيني على تمسكه بحقوقه المشروعة كاملة، وإن كان بثمن مرتفع، وعلى رأس هذه الحقوق قضيتا اللاجئين والقدس اللتان لن يزيلهما من الذاكرة الجمعية الفلسطينية أي قرار سياسي.
صحيح أن النكبة مستمرة، لكن الدولة الصهيونية لم تنتصر، والشعب الفلسطيني لم يهزم، والدماء التي سالت ينبغي ترجمتها إلى إنجازات أهمها إنهاء الحصار المفروض على قطاع غزة وإلغاء العقوبات ضد الشعب الفلسطيني.
لكن الحذر من الحديث عن النضال الغزي بمعزل عن النضال الوطني الفلسطيني. لذا، تمنياتنا أن تكون هذه الدماء مصدراً لإعادة فتح الحوار الوطني حول إنهاء الانقسام الفلسطيني الفلسطيني وما واكبه من إجراءات، أقلها للتعويض عن الدم الزكي المسال لتعزيز وحدة الموقف الفلسطيني ولإراحة ضمائر تتألم من وجود «كيانين» فلسطينيين. الوقائع تشدد وتجزم بأن فلسطين بخير نسبي، متنام بإذن الله وقوة الشعب، وقضيتها لم ولن تموت. والحال كذلك، هل تتحول ذكرى النكبة السبعين إلى «نكبة سياسية لإسرائيل»؟!