علي جرادات
بعد قرار واشنطن بشأن القدس، فضلاً عن خطواتها المتعلقة بوقْف مساعداتها المالية ل«الأونروا» والسلطة الفلسطينية، وإغلاق مكتب بعثة منظمة التحرير لديها، انتقلت الولايات المتحدة، موقعاً وموقفاً، من دور «الوسيط» الذي تبنى شروط حكومات الاحتلال «الإسرائيلي» ل«تسوية الصراع»، إلى دور الشريك الذي أصبح يتبنى، كلياً، رؤية أكثر حكومات هذا الاحتلال تشدداً إيديولوجياً وتطرفاً سياسياً لتصفية القضية الفلسطينية. هنا، دخل الفلسطينيون، شعباً، قضيةً، حقوقاً، وحركة وطنية مرحلة جديدة، عنوانها الأساس: أن «ما كان يصلح بالأمس لم يعد صالحاً اليوم»، سواء لناحية إدارة الصراع مع الاحتلال وحليفه الأمريكي لمدة 25 عاماً، أو لناحية إدارة الخلافات والاختلافات والانقسامات الداخلية لمدة 11 عاماً، على ما بين الأمريْن من علاقة تداخل وترابط.
لقد توافرت فرصتان ذهبيتان، (انعقاد المجلس المركزي، ثم «المجلس الوطني لمنظمة التحرير)، لإجراء مراجعة سياسية وطنية شاملة للمرحلة السابقة، تفضي إلى الاتفاق أو التوافق على برنامج سياسي وطني مُوحَّد يكفل توحيد وإعداد وتحصين العامل الوطني، ويجعله قادراً على خوض المواجهة السياسية والشعبية المفروضة والمفتوحة مع الاحتلال، وعلى استقطاب الدعم الخارجي متعدد الجنسيات والأشكال في المرحلة الجديدة. لكن تفرد قيادة «فتح» في تشكيل اللجان التحضيرية، وفي تحديد جدول الأعمال، وفي اختيار مكان الانعقاد، أدى إلى عدم مشاركة فصائل أساسية وشخصيات وطنية وازنة، وقوى مجتمعية وأطر نقابية وجماهيرية فاعلة.
هنا نعثر على سر مواجهة المرحلة الجديدة بخطاب قديم ينطبق عليه القول: «التعاسة في السياسة هي ألا يواكب الذهن تحولات الواقع».
ولعل هذا هو التوصيف أو التشخيص الدقيق لدحْر المراجعة السياسية الوطنية الشاملة لإدارة الصراع الفاشلة والضارة مع الاحتلال، ولتأجيل إنهاء الانقسام الداخلي المُدمِّر الذي عاد إلى مربعه الأول، إلى أجل غير مسمى. وكل ذلك رغم مرور أربعة أشهر على تطبيقات القرار الأمريكي بشأن القدس، تخللتها مواجهة ميدانية ممتدة مع الاحتلال، بلغت ذروتها في «مسيرات العودة الكبرى» المستمرة بمشاركة شعبية واسعة في قطاع غزة، وبصورة أقل في الضفة و«مناطق 48»، فيما التحضيرات جارية لأن يكون يوم 15 مايو/ أيار الجاري، حيث تحل الذكرى ال70 للنكبة، يوماً ل«الزحف الشعبي العظيم» للفلسطينيين في جميع أماكن تواجدهم، بكل ما ينطوي ذلك من تضحيات كبيرة وغالية، جراء ما أعدَّه، وخطط له، وأعلنه، وسوف يرتكبه جيش الاحتلال وأجهزته الأمنية، بقرار سياسي مبيَّت، من مجازر وجرائم حربٍ موصوفة مكتملة الأركان بحق المتظاهرين السلميين.
وإذا شئنا القبض على الأسباب الأبعد والأعمق الكامنة خلف ما آل إليه حال منظمة التحرير الفلسطينية ومؤسساتها، فلنقل إنها كيفية تعامل قيادتَي حركتَي «فتح» و«حماس»، مع المنظمة، سواء قبل أو بعد القرار الأمريكي بشأن القدس الذي أدخل الشعب الفلسطيني في مرحلة جديدة حملت مخاطر وتحديات كبيرة. فقيادة «فتح» اتبعت سياسة استخدام المنظمة ومؤسساتها، فيما اتبعت قيادة «حماس» سياسة التنكر لها. هنا، تضافرت سياستا الاستخدام والتنكر، وأدتا، بالنتيجة، إلى إحلال «السلطة الفلسطينية» محل المنظمة، وبالتالي، إلى تضييع 11 عاماً من فرص، (وفرتها اتفاقات وتفاهمات وطنية)، إعادة بناء وتوحيد ودمقرطة هذا الإطار الوطني الجامع، والكيان المعنوي والممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني في الوطن والشتات، والإنجاز السياسي الأكبر لنضاله المعاصر، على أسس وطنية وديمقراطية، تتطلبها، وتقتضيها، وتفرضها، مرحلة التحرر الوطني التي ما زال الشعب الفلسطيني يعيشها، ولم تُنجز مهماتها في العودة والدولة وتقرير المصير بعد.