يميل بعضهم إلى الاعتقاد بأن بنيامين نتنياهو هو الهاجس الصهيونيّ الأكبر، في مطلب تكريس الطابع اليهودي لدولة الاحتلال الإسرائيلية، والذي لا يكلّ من تكراره في أي مناسبةٍ سانحة. وكان جديدها السجال الدائر على خلفية مسألة طرد طالبي العمل من أفريقيا أو استيعابهم، والذي شهد هجومًا شنّه نتنياهو على إحدى منظمات المجتمع المدني، بحجة أنها تسعى إلى تغيير الطابع المذكور، وتحويل إسرائيل إلى دولة كل مواطنيها. بيد أن تكريس هذا الطابع كان ديدن زعماء الحركة الصهيونية منذ بدء مشروع استعمار فلسطين، وبقي الهدف الأول لزعماء دولة الاحتلال منذ إقامتها قبل 70 عامًا.
وانعكس الأمر، وإن بصورة غير مباشرة، في إعلاء شأن الهاجس الديموغرافي الذي كان القائلون به يتحدثون جهارًا عن المدلول العنصريّ لتثبيت أغلبية يهوديّة، مع ما يتطلّب ذلك من تطهير فلسطين عرقيًا من سكانها الأصلانيين. وبات معروفًا الآن أن هذا الهاجس تحوّل إلى منزلة قيدٍ على جغرافية دولة الاحتلال، على مدار مراحل تمدّدها المتعدّدة، بدءًا بعام 1948، وصولًا إلى 1967، مرورًا بعام 1956 وشنّ العدوان الثلاثيّ على مصر.
ويتمثّل أحد منطلقات منتقدي نتنياهو، وسياسة اليمين الإسرائيلي عامة، في الزعم بأن هناك ما يشبه القطيعة بين هذه السياسة وسياسة الأسلاف في رئاسة الحكومة، وبالأساس سياسة المؤسس الأول، ديفيد بن غوريون، فمثلًا في كتاب جديد عن سيرة حياة الأخير أشير، من ضمن أمور كثيرة، إلى أنه كان على استعداد لقبول فكرة تقسيم فلسطين، خصوصًا عندما طُرحت أول مرة عام 1937 (في إطار توصيات لجنة بيل)، ومن ثم مع صدور القرار رقم 181 عن الجمعية العامة للأمم المتحدة. وكان مستعدًّا لأن يوقع اتفاق عدم خوض حروب مع الدول العربية المجاورة عام 1956. وهو ما حمل كاتم أسراره وكاتب سيرته الذاتية، ميخائيل بار زوهر، إلى دحض ذلك، وإعادة التذكير بما أسماه "حلم بن غوريون الذي لم يتحقّق".
ويكشف بار زوهر أن بن غوريون صاغ، في 1956، ما أسماها "خطة متطرّفة لمنطقة الشرق الأوسط"، اقترح فيها احتلال لبنان حتى نهر الليطاني، وإقامة دولة مسيحية إلى الشمال من هذا النهر، وضم شبه جزيرة سيناء إلى إسرائيل، وتقاسم مملكة الأردن التي وصفها بأنها "كيان مصطنع" بين العراق وإسرائيل. وسجّل تفاصيل هذه الخطة ضمن مفكرته (يوميات بن غوريون، 22 أكتوبر/تشرين الأول 1956)، وعرضها على رئيس الحكومة الفرنسية ووزرائه في مستهل مؤتمر سيفر السريّ الذي عقد في باريس في أكتوبر/تشرين الأول 1956، وأُقرّ فيه العدوان الثلاثي الإسرائيلي- الفرنسي- البريطاني على مصر وحُدّد موعده.
ويضيف بار زوهر أن بن غوريون غيّر رأيه حيال احتلال مزيد من الأراضي فقط في إثر العدوان الثلاثي، عندما تبيّن له أن سكان قطاع غزة لم "يهربوا" من أمام قوات الجيش الإسرائيلي، كما حدث إبّان نكبة 1948 ("هربوا" هي الكلمة المتداولة في أغلبية الأدبيات الإسرائيلية لتوصيف نتيجة عمليات الترحيل الصهيونية)، وإنما رفعوا الرايات البيضاء. ولخّص بأنه منذ ذلك الوقت كفّ بن غوريون عن الإدلاء بتصريحاتٍ قتالية، وكرّر على مسامع أصدقائه ومعارفه أن سبب معارضته احتلال أراضي الضفة الغربية يعود إلى قناعته بأن "سكان هذه الأراضي لن يهربوا هذه المرة"!، بحيث يمكن القول "إن المشكلة الديموغرافية هي التي تسبّبت في دفن أحلام بن غوريون، على ما يبدو، بصورة نهائية"، على حد تعبير الكاتب.
لكن التخلّي عن مثل هذه الأحلام الشاطّة لا يعني تراجع الهاجس الهوسيّ بالمشكلة، حسبما تُثبت وقائع كثيرة متراكمة منذ ذلك العام. وبرأي إيلان بابيه، فإن التسويغ الإسرائيلي الأكثر أساسية، الإجماعي، ضد عودة اللاجئين الفلسطينيين، يتمثل في الخوف من فقدان الأكثرية الديموغرافية اليهودية لدولة الاحتلال. ويبدو هذا الخوف أقوى حتى من رغبة إنكار النكبة، أو من السعي إلى التهرّب من المسؤولية عن ارتكاب جريمة الطرد في 1948.