عادل سليمان
"إحنا مش لاجئين.. إحنا راجعين"، تلك كانت صرخة مئات آلاف الفلسطينيين على وقع دقات الدفوف الفلسطينية، وهم مصطفون على امتداد السياج الأمني الذي أقامه العدو الصهيوني، ليفصل قطاع غزة المحاصر عن الأرض الفلسطينية المحتلة، والتي اغتصبها بتواطؤ قوى دولية وإقليمية، وتخاذل دول عربية وتهافت حكامها نحو سبعين عاماً، وطرد أصحاب الأرض قسراً وقهراً، وأحلّ محلهم مهاجرين يهودا قدموا من مشارق الأرض ومغاربها، وبقوة العصابات الصهيونية المسلحة، ودعم قوى الاستعمار القديم في ذلك الوقت، خصوصا بريطانيا وفرنسا، أقامت الحركة الصهيونية العالمية دولة العدو الإسرائيلى على الأرض الفلسطينية المُغتَصبة. الدولة التى خاضت عدة جولات من الحروب على مدى 25 عاماً، بدأت بحرب فلسطين الأولى عام 1948، وانتهت بحرب أكتوبر/ تشرين الأول 1973، وتوقفت جولات الصراع العربي - الإسرائيلي، لتحل محلها جولاتٌ من نوع آخر، هي جولات التفاوض في إطار ما عُرفت بعملية السلام، والتي أدت إلى اعتراف مصر والأردن بدولة العدو الإسرائيلي، وعقدتا معها اتفاقيات سلام. وأيضاً اعترفت بها منظمة التحرير الفلسطينية التي اعتبرتها جامعة الدول العربية عبر أحد مؤتمرات القمة "الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني"، وذلك في ما يُعرف باتفاقيات أوسلو؟ لم يتوقف الأمر عند ذلك الحد. ولكن، في السياق نفسه، قدّم العرب، في مؤتمر قمة بيروت عام 2002، مبادرة سلام يعترفون فيها بدولة العدو الإسرائيلي مقابل الانسحاب من الأراضي العربية التي احتلتها في حرب يونيو/ حزيران 1967.
على الرغم من ذلك، رفض العدو الإسرائيلي، وتمادى في خططه الاستيطانية والتوسعية العدوانية، وأعلن ضم هضبة الجولان السورية المحتلة إلى دولته، وأقام مئات المستوطنات في الضفة الغربية المحتلة، ومضى في مخطط تهويد القدس وتوحيدها، وأعلنها عاصمةً أبديةً لدولة العدو الإسرائيلي، وبلغ الأمر درجة شديدة الخطورة بقرار الرئيس الأميركي ترامب التصديق على اعتبار القدس عاصمة لإسرائيل ونقل السفارة الأميركية إليها، وحدد لذلك تاريخ 14 مايو/ أيار 2018، وهي الذكرى السبعون لإعلان قيام إسرائيل. وأحكم الحصار حول قطاع غزة الذي يتجاوز سكانه الفلسطينيون أكثر من مليون ونصف مليون شخص. وقد جرى ذلك كله ويجري في ظل معاهدتين للسلام، واتفاقية للتسوية، ومبادرة سلام عربية، والأكثر من ذلك هرولة عربية غير مسبوقة للتطبيع مع العدو الإسرائيلي. وأخيراً دعوات صريحة من قادة ومسؤولين كبار عرب إلى استبعاد إسرائيل عدوا تقليديا للعرب، واستبدالها بالجمهورية الإسلامية الإيرانية، وبلغ الأمر حد اعتبار إيران عدوا مشتركا لكل من العرب وإسرائيل.
وهناك عدة أسئلة تطرح نفسها بإلحاح اليوم، لعل أهمها هي.. ماذا تعني مسيرات العودة الفلسطينية بكل هذا الزخم والحماس، وفي هذا التوقيت بالذات في ظل كل تلك الظروف؟ ولماذا شعر العدو الإسرائيلي بالقلق الشديد، وكان رد فعله انفعالياً، وعنيفاً، وغاشما أدى إلى سقوط عدد كبير من الشهداء والمصابين من المواطنين العزل بينهم أطفال؟ ولماذا كان رد الفعل العربي فاتراً، وأحياناً لا يكاد يُذكر؟ ولماذا احتلت أحداث مسيرة العودة مساحة كبيرة من اهتمام وسائل الإعلام العالمية؟ وما هي انعكاسات تلك المسيرات غير المسبوقة على مسار القضية الفلسطينية؟
الإجابة عن كل تلك الأسئلة شديدة الأهمية، تحتاج وقفة نسترجع فيها المشهد الفلسطيني من بداية الألفية الثالثة، وبالتحديد منذ اندلاع الانتفاضة في العام 2000، وتصاعد نشاط حركات المقاومة الفلسطينية المستقلة عن منظمة التحرير، خصوصا حركتي حماس والجهاد الإسلامي، والتي تتخذ من قطاع غزة مركزا رئيسياً لها، والانسحاب الإسرائيلي الأحادي الجانب من قطاع غزة في العام 2005، وعقد اتفاقية المعابر التي تنظم الحركة من قطاع غزة وإليه، ثم الانتخابات الفلسطينية عام 2006، وفوز حركة حماس ومؤيديها بالأغلبية التي مكّنتها من تشكيل حكومة فلسطينية، برئاسة أحد أبرز قيادييها في الداخل، إسماعيل هنية، رئيس المكتب التنفيذي حالياً، ثم ما أعقب ذلك من ضغوط كبيرة على حكومة حماس داخلياً، وإقليميا ودوليا، انتهت بالصدام الحاد بين الحركة وحركة فتح والسلطة الفلسطينية، والتي انتهت بما يعرف بالحسم لصالح "حماس"، وسيطرتها على قطاع غزة 2007، وحدوث الانقسام الفلسطيني الحاد، ومن ثم فرض الحصار على قطاع غزة والمستمر. وتاليا، في ديسمبر/ كانون الأول 2008/ يناير/ كانون الثاني 2009، وقعت حرب غزة العدوانية التي شنها العدو الإسرائيلي وكانت تستهدف البنية العسكرية الأساسية للمقاومة داخل القطاع، ونتجت عنها خسائر فادحة على القطاع، لكن العدو الإسرائيلي لم يتمكن من تحقيق أهدافه، واستمرت سيطرة "حماس" على القطاع، واستمر الحصار. والأهم استمر زخم المقاومة الفلسطينية، واستمرت القضية الفلسطينية محل الاهتمام الدولي، والإقليمي، وبالطبع الاهتمام العربي، خصوصا على مستوى الشارع العربي، باعتبارها كانت القضية العربية الأولى.
وهبت على المنطقة رياح الربيع العربي مع نهاية عام 2010، وبداية عام 2011، واستبشر بها الفلسطينيون، وخصوصا المقاومة التي رأت في ثورات الربيع العربي دعماً رئيسياً لها، وسنداً قوياً لتوجهاتها الوطنية ومطالبها المشروعة. وللأسف الشديد، لم تأت رياح الربيع العربي بما تشتهي سفن المقاومة الفلسطينية.
لم يكن الهدف من استرجاع ذلك المشهد بأحداثه المتتابعة عملية سرد تاريخي للتذكرة بتلك الوقائع، لكن الأمر يتعلق بصلب الموضوع الذي نتناوله، وهو مسيرات العودة التي نظمتها المقاومة الفلسطينية في غزة، وما أثارته من تساؤلات، حيث إن استعراض المشهد الفلسطيني بإيجاز، على مدى حوالي عشرة أعوام (2000 - 2010)، يوضح أن المقاومة الفلسطينية كانت حية، فاعلة، تجعل من القضية الفلسطينية ملء السمع والبصر. والأهم أن المقاومة كانت تمثل الأمل للشعب الفلسطيني في الحصول على حقوقه المشروعة في أرضه، ومقدّراته، ومقدساته.
وعودة إلى رياح الربيع العربي التي هبت في نهاية العام 2010، وبداية العام 2011، فأنعشت المقاومة الفلسطينية التي كان قد أنهكها صراع السنوات العشر الأخيرة. ولكن ما لبثت أن جاءت عواصف الخريف العاتية المتمثلة في الثورات المضادة، لتمثل إحباطاً للمقاومة الفلسطينية، خصوصا مع توالي الأحداث والتطورات العربية، والإقليمية، والدولية، خصوصا في دول الطوق، مصر وسورية والأردن ولبنان، وكذا السعودية ودول الخليج، وما جرى ويجري في اليمن وليبيا والعراق، وارتفاع شعارات أنه لا صوت يعلو على صوت الحرب على الإرهاب، وتنظيم الدولة الإسلامية، واشتد الحصار على المقاومة، وكانت حرب غزة 2014، والتي شنها العدو الإسرائيلي 51 يوماً متصلة، ووقوف الشعب الفلسطيني في غزة، والمقاومة، في صمود أسطوري أمام ذلك العدوان، والعالم العربي مشغول بقضاياه ومشكلاته.. والمجتمع الدولي منشغل بحربه على الإرهاب. كانت تلك الحرب علامة فارقة، اشتد بعدها الحصار على المقاومة، وتوارت القضية الفلسطينية، وارتفعت أصوات التطبيع مع العدو الإسرائيلي، وظهرت دعوات للتحالف العربي - الإسرائيلي ضد العدو المشترك الجديد.. إيران.
في وسط كل هذا الضباب الكثيف الذي أحاط بالقضية الفلسطينية، قضية الشعب والأرض والمقدسات والحصار المحكم الذي يطبق على المقاومة الفلسطينية داخل قطاع غزة المكتظ بأهله الفلسطينيين وقرابة نصفهم ممن طردوا من أرضهم التي أقام حولها العدو سياجه الأمني، وبينما يستعد العدو الإسرائيلي للاحتفال بالذكرى السبعين لاغتصاب الأرض بمشاركة أميركية في 14 مايو/ أيار المقبل، جاءت "مسيرات العودة" وخروج مئات آلاف من الفلسطينيين شيباً وشباناً، وأطفالاً، رجالاً، ونساءً، واصطفافاتٍ على امتداد السياج الأمني للعدو، وأنظارهم متجهة إلى أرضهم ودورهم المغتصبة، وصيحاتهم تدوي لتسمع العالم.
"إحنا مش لاجئين.. إحنا راجعين"، ليتجدّد الأمل في العودة ليس فقط للبشر، ولكن أيضاً للحقوق، وللمقدسات، وذلك عبر المقاومة التي ستبقى أنبل ما في هذه الأمة، وستبقى إبداعاتها تبعث فيها الأمل.