ألّا يلقي مواطنو قطاع غزة بالاً لتهديدات قادة الاحتلال وتحذيراتهم، وأن يقبلوا التحدي، وأن يشاركوا بعشرات الآلاف في أولى مسيرات العودة الكبرى، يعني:
1: أن الحالة الشعبية الفلسطينية، وفي غزة تحديداً، قد عيلَ صبرها، وبلغ سيلها الزبى، حالها حال مرجل يغلي على نار غطرسة الهجوم الأمريكي «الإسرائيلي»، بالمعنييْن السياسي والميداني.
2: الفلسطينيون الذين لم تثنهم مجزرة الاحتلال المبيتة، التي أوقعت عشرات الشهداء ومئات المصابين عن مواصلة مسيرات العودة الكبرى، وفق البرنامج الذي حددته، وتتولى متابعة تنفيذه هيئة وطنية، تأخذ بعين الاعتبار كل طارئ ومستجد، لن تثنيهم المجازر المُحتملة والمُتوقعة، اتصالاً بتهديدات قادة الاحتلال المعلنة، عدا أن المزيد من المجازر إنما يصبُّ الزيت على لهيب نار لديه، أصلاً، قابلية التحول إلى حريق شامل، خاصة وأننا عشية «جمعة تأبين شهداء المجزرة»، وفعاليات إحياء مناسبة «يوم الأسير» القادمة، التي بدأ الإعداد لها، وصولاً، (وهنا الأهم)، إلى مسيرات «الزحف العظيم»، (حسب توصيف الهيئة الوطنية)، في الذكرى ال70 للنكبة التي، ربما، تتزامن مع نقل السفارة الأمريكية إلى القدس، والمُتوقع أن يحضر مراسيم نقلها نائب الرئيس الأمريكي، بينس، نيابة عن الرئيس دونالد ترامب.
إن مشهد الصراع الجاري لن يختلف فيما سيؤول إليه من تداعيات ونتائج، عما آلت إليه جرائم سياسة «تكسير العظام»، التي نفذها جيش الاحتلال وأجهزته الأمنية بحق المتظاهرين السلميين في الأسابيع الأولى لانتفاضة الحجارة 87؛ حيث لم تُخمد تلك الانتفاضة في مهدها؛ بل قادت إلى تصعيدها واستمرارها لسنوات، حتى أصبحت «إسرائيل»، قيادة وجمهوراً، تخشى حدوثها مرة أخرى خشية البشر من الطاعون.
ولن يختلف، أيضاً، عما آل إليه إطلاق النار لدرجة سقوط عشرات الشهداء وآلاف الجرحى من المتظاهرين في الأسابيع الأولى ل«الانتفاضة الثانية»، (2000)؛ حيث تحولت تلك التظاهرات الشعبية إلى انتفاضة مسلحة امتدت لسنوات، زادت خلالها، بصورة غير مسبوقة، العمليات الاستشهادية، التي ما زال كابوسها يلاحق «الإسرائيليين» كظلهم.
ولن يختلف، أيضاً وأيضاً، عما آل إليه إطلاق حكومة الاحتلال عام 2015 يد جيشها لارتكاب جرائم الإعدامات الميدانية للمتظاهرين، وإطلاق الرصاص على رؤوس الجرحى، وإطلاق يد المستوطنين؛ لارتكاب فظاعات حرق العائلات والفتية والأطفال الرضع أحياء، ما أدى إلى اندلاع «هبة الأقصى»، وعمادها عمليات «الطعن والدهس»، التي رفعت حالة الهوس لدى «الإسرائيليين» إلى درجة تقليل الخروج من البيوت؛ خشية التعرض للطعن أو الدهس.
الشواهد أعلاه لا تعني أن «إسرائيل» تجهل عواقب ما ارتكبته في الماضي، وما ترتكبه في الحاضر من عمليات تطهير عرقي مُخطط، ومجازر، ومذابح، وفظاعات، واعتداءات، وحروب مبيتة، وما أكثرها؛ بل تعرف تداعيات ونتائج كل ذلك.
إن ما تفعله «إسرائيل» اليوم، إن هو إلا تحصيل حاصل، ولزوم لازم، وتعبير عن ارتقاء عنصريتها إلى الفاشية، ارتباطاً بكونها وليد حركة استعمارية استيطانية إقصائية إحلالية، تنكر أن الفلسطينيين شعباً، وتريد فلسطين العربية: «يهودية كما هي إنجلترا إنجليزية، وهولندا هولندية». هذا ناهيك عن أنها، («إسرائيل»)، مصلحة عليا، ومحميَّة «غربية». فالولايات المتحدة بخاصة، ودول الاستعمار «الغربي» بعامة، التي تقيم الدنيا ولا تُقعدها كلما قُتل مستوطن «إسرائيلي» واحد، تمنع مجلس الأمن من مجرد انتقاد، (فما بالك بإدانة ومحاسبة)، «إسرائيل» المارقة، وكأننا بالفعل أمام قاعدة، وللدقة مفارقة ترى: «قتل شخص جريمة لا تُغتفر، وقتل شعب مسألة فيها نظر». لكن، رغم كل ذلك، ومع كل ذلك، فإن الفلسطينيين لم يسلموا ولم يستسلموا، ما جعل حال قادة الاحتلال كحال ساحر «لم يُخرج الأرنب من القبعة»؛ بل «عقارب كثيرة»، و«السحر ينقلب على الساحر»، والعقرب ملؤه سم زعاف، و«طابخ السم يتذوقه». إنه الصراع المفتوح منذ قرنٍ من الزمان، ولم تُحسم نتائجه النهائية بعد، ويعود اليوم إلى أصله، جرح «إسرائيل» المفتوح والموجع، أي حق اللاجئين في العودة إلى ديارهم التي شردوا منها.